للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَقَوْلُهُ: إِنْ شاءَ ذَلِكَ فَيَمْنَعُهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ/ أَوْ يَتُوبُ عَلَيْهِمْ إِنْ أَرَادَ، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ قَدْ حَصَلَ يَأْسُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ إِيمَانِهِمْ وَآمَنَ بَعْدَ ذَلِكَ نَاسٌ مِنْهُمْ وَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً حيث ستر ذنوبهم ورَحِيماً حَيْثُ رَحِمَهُمْ وَرَزَقَهُمُ الْإِيمَانَ فَيَكُونُ هَذَا فِيمَنْ آمَنَ بَعْدَهُ أَوْ نَقُولُ: وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ مَعَ أَنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا لِكَثْرَةِ ذَنْبِهِمْ وَقُوَّةِ جُرْمِهِمْ وَلَوْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ لَغَفَرَ لَهُمْ ثُمَّ بَيَّنَ بَعْضَ مَا جَازَاهُمُ اللَّهُ بِهِ عَلَى صِدْقِهِمْ فَقَالَ: وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ أَيْ مَعَ غَيْظِهِمْ لَمْ يَشْفُوا صَدْرًا وَلَمْ يُحَقِّقُوا أَمْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ أَيْ لَمْ يُحْوِجْهُمْ إِلَى قِتَالٍ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا غَيْرَ مُحْتَاجٍ إِلَى قِتَالِهِمْ عَزِيزًا قَادِرًا على استئصال الكفار وإذلالهم ثم قال تعالى:

[[سورة الأحزاب (٣٣) : آية ٢٦]]

وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (٢٦)

أَيْ عَاوَنُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَهُمْ بَنُو قُرَيْظَةَ مِنْ صَيَاصِيهِمْ مِنْ قِلَاعِهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ حَتَّى سَلَّمُوا أَنْفُسَهُمْ للقتل وأولادهم ونسائهم لِلسَّبْيِ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَهُمُ الرِّجَالُ، وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا وَهُمُ الصِّبْيَانُ وَالنِّسْوَانُ، فَإِنْ قِيلَ هَلْ فِي تَقْدِيمِ الْمَفْعُولِ حَيْثُ قَالَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْخِيرِهِ حَيْثُ قَالَ: وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً فَائِدَةٌ؟

قُلْتُ قَدْ أَجَبْنَا أَنَّ مَا مِنْ شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ إِلَّا وَلَهُ فَوَائِدُ مِنْهَا مَا يَظْهَرُ وَمِنْهَا مَا لَا يَظْهَرُ، وَالَّذِي يَظْهَرُ مِنْ هَذَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ الْقَائِلَ يَبْدَأُ بِالْأَهَمِّ فَالْأَهَمِّ وَالْأَعْرَفِ فَالْأَعْرَفِ وَالْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ، وَالرِّجَالُ كَانُوا مَشْهُورِينَ فَكَانَ الْقَتْلُ وَارِدًا عَلَيْهِمْ وَالْأَسْرَى كَانُوا هُمُ النِّسَاءَ وَالصِّغَارَ وَلَمْ يَكُونُوا مَشْهُورِينَ وَالسَّبْيُ وَالْأَسْرُ أَظْهَرُ مِنَ الْقَتْلِ لِأَنَّهُ يَبْقَى فَيَظْهَرُ لِكُلِّ أَحَدٍ أَنَّهُ أَسِيرٌ فَقَدَّمَ مِنَ الْمَحَلَّيْنِ مَا هُوَ أَشْهَرُ عَلَى الْفِعْلِ الْقَائِمِ بِهِ وَمَا هُوَ أَشْهَرُ مِنَ الْفِعْلَيْنِ قَدَّمَهُ عَلَى الْمَحَلِّ الْأَخْفَى، وَإِنْ شِئْنَا نَقُولُ بِعِبَارَةٍ تُوَافِقُ الْمَسَائِلَ النَّحْوِيَّةَ فَنَقُولُ قَوْلُهُ: فَرِيقاً تَقْتُلُونَ فِعْلٌ وَمَفْعُولٌ وَالْأَصْلُ فِي الْجُمَلِ الْفِعْلِيَّةِ تَقْدِيمُ الْفِعْلِ عَلَى الْمَفْعُولِ وَالْفَاعِلِ، أَمَّا أَنَّهَا جُمْلَةٌ فِعْلِيَّةٌ فَلِأَنَّهَا لَوْ كَانَتِ اسْمِيَّةً لَكَانَ الْوَاجِبُ فِي فَرِيقٍ الرَّفْعَ وَكَانَ يَقُولُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ تَقْتُلُونَهُمْ فَلَمَّا نَصَبَ كَانَ ذَلِكَ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ يُفَسِّرُهُ الظَّاهِرُ تَقْدِيرُهُ تَقْتُلُونَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَالْحَامِلُ عَلَى مِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ شِدَّةُ الِاهْتِمَامِ بِبَيَانِ الْمَفْعُولِ، وَهَاهُنَا كَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ حَالَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ وَأَنَّهُ قَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَلَوْ قَالَ تَقْتُلُونَ إِلَى أَنْ يَسْمَعَ السَّامِعُ مَفْعُولَ تَقْتُلُونَ يَكُونُ زَمَانٌ وَقَدْ يَمْنَعُهُ مَانِعٌ فَيُفَوِّتُهُ فَلَا يُعَلْمُ أَنَّهُمْ هُمُ الْمَقْتُولُونَ، فَأَمَّا إِذَا قَالَ فَرِيقًا مَعَ سَبْقٍ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ إِلَى سَمْعِهِ يَسْتَمِعُ إِلَى تَمَامِ الْكَلَامِ وَإِذَا كَانَ الْأَوَّلُ فِعْلًا وَمَفْعُولًا قُدِّمَ الْمَفْعُولُ لِفَائِدَةِ عَطْفِ الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ عَلَيْهَا عَلَى/ الْأَصْلِ فَعَدَمُ تَقْدِيمِ الْفِعْلِ لِزَوَالِ مُوجِبِ التَّقْدِيمِ إِذَا عَرَفَ حَالَهُمْ وَمَا يَجِيءُ بَعْدَهُ يَكُونُ مَصْرُوفًا إِلَيْهِمْ، وَلَوْ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ وَفَرِيقًا تَأْسِرُونَ فَمَنْ سَمِعَ فَرِيقًا رُبَّمَا يَظُنُّ أَنْ يُقَالَ فِيهِمْ يُطْلَقُونَ، أَوْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِمْ فَكَانَ تَقْدِيمُ الفعل هاهنا أَوْلَى، وَكَذَلِكَ الْكَلَامُ فِي قَوْلِهِ: وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ وَقَوْلِهِ: وَقَذَفَ فَإِنَّ قَذْفَ الرُّعْبِ قَبْلَ الْإِنْزَالِ لِأَنَّ الرُّعْبَ صَارَ سَبَبَ الْإِنْزَالِ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ الْفَرَحُ فِي إِنْزَالِهِمْ أَكْثَرَ، قُدِّمَ الإنزال على قذف الرعب والله أعلم. ثم قال تعالى:

[[سورة الأحزاب (٣٣) : آية ٢٧]]

وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (٢٧)

فِيهِ تَرْتِيبٌ عَلَى مَا كَانَ، فَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ أَوَّلًا تَمَلَّكُوا أَرْضَهُمْ بِالنُّزُولِ فِيهَا وَالِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهَا ثُمَّ تملكوا ديارهم

<<  <  ج: ص:  >  >>