للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ: وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ رَحِيمٌ بِالْإِنْزَالِ حَيْثُ يُنْزِلُ الرِّزْقَ مِنَ السَّمَاءِ، غَفُورٌ عند ما تَعْرُجُ إِلَيْهِ الْأَرْوَاحُ وَالْأَعْمَالُ فَرَحِمَ أَوَّلًا بِالْإِنْزَالِ وغفر ثانيا عند العروج.

[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ٣ الى ٤]

وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٣) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤)

ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ هَذِهِ النِّعْمَةَ الَّتِي يَسْتَحِقُّ اللَّهُ بِهَا الْحَمْدَ وَهِيَ نِعْمَةُ الْآخِرَةِ أَنْكَرَهَا قَوْمٌ فَقَالَ تَعَالَى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ ثم رد عليهم وقال: قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ.

أَخْبَرَ بِإِتْيَانِهَا وَأَكَّدَهُ بِالْيَمِينِ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَوْ قَالَ قَائِلٌ كَيْفَ يَصِحُّ التَّأْكِيدُ بِالْيَمِينِ مَعَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ لَا رَبَّ وَإِنْ كَانُوا يَقُولُونَ بِهِ، لَكِنَّ الْمَسْأَلَةَ الْأُصُولِيَّةَ لَا تَثْبُتُ بِالْيَمِينِ وَأَجَابَ عَنْهُ بِأَنَّهُ لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى الْيَمِينِ بَلْ ذَكَرَ الدَّلِيلَ وَهُوَ قَوْلُهُ: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَبَيَانُ كَوْنِهِ دَلِيلًا هُوَ أَنَّ الْمُسِيءَ قَدْ يَبْقَى فِي الدُّنْيَا مُدَّةً مَدِيدَةً فِي اللَّذَّاتِ الْعَاجِلَةِ وَيَمُوتُ عَلَيْهَا وَالْمُحْسِنُ قَدْ يَدُومُ فِي دَارِ الدُّنْيَا فِي الْآلَامِ الشَّدِيدَةِ مُدَّةً وَيَمُوتُ فِيهَا، فَلَوْلَا دَارٌ تَكُونُ الْأَجْزِيَةُ فِيهَا لَكَانَ/ الْأَمْرُ عَلَى خِلَافِ الْحِكْمَةِ، وَالَّذِي أَقُولُهُ أَنَا هُوَ أَنَّ الدَّلِيلَ الْمَذْكُورَ فِي قَوْلِهِ: عالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ أَظْهَرُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ عَالِمًا بِجَمِيعِ الْأَشْيَاءِ يَعْلَمُ أَجْزَاءَ الْأَحْيَاءِ وَيَقْدِرُ عَلَى جَمْعِهَا فَالسَّاعَةُ مُمْكِنَةُ الْقِيَامِ، وَقَدْ أَخْبَرَ عَنْهَا الصَّادِقُ فَتَكُونُ وَاقِعَةً، وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ تَعَالَى: فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ فِيهِ لَطِيفَةٌ وَهِيَ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَهُ جِسْمٌ وَرُوحٌ وَالْأَجْسَامُ أَجْزَاؤُهَا فِي الْأَرْضِ وَالْأَرْوَاحُ فِي السَّمَاءِ فَقَوْلُهُ: لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ إِشَارَةٌ إِلَى عِلْمِهِ بِالْأَرْوَاحِ وَقَوْلُهُ:

وَلا فِي الْأَرْضِ إِشَارَةٌ إِلَى عِلْمِهِ بِالْأَجْسَامِ، وَإِذَا عَلِمَ الْأَرْوَاحَ وَالْأَشْبَاحَ وَقَدَرَ عَلَى جَمْعِهَا لَا يَبْقَى اسْتِبْعَادٌ فِي الْمَعَادِ. وَقَوْلُهُ: وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ ذِكْرَ مِثْقَالِ الذَّرَّةِ لَيْسَ لِلتَّحْدِيدِ بَلِ الْأَصْغَرُ مِنْهُ لَا يَعْزُبُ، وَعَلَى هَذَا فَلَوْ قَالَ قَائِلٌ فَأَيُّ حَاجَةٍ إِلَى ذِكْرِ الْأَكْبَرِ، فَإِنَّ مَنْ عَلِمَ الْأَصْغَرَ مِنَ الذَّرَّةِ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَعْلَمَ الْأَكْبَرَ؟

فَنَقُولُ لَمَّا كَانَ اللَّهُ تَعَالَى أَرَادَ بَيَانَ إِثْبَاتِ الْأُمُورِ فِي الْكِتَابِ، فَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَى الْأَصْغَرِ لَتَوَهَّمَ مُتَوَهِّمٌ أَنَّهُ يُثْبِتُ الصَّغَائِرَ، لِكَوْنِهَا مَحَلَّ النِّسْيَانِ، أَمَّا الْأَكْبَرُ فَلَا يُنْسَى فَلَا حَاجَةَ إِلَى إِثْبَاتِهِ، فَقَالَ الْإِثْبَاتُ فِي الْكِتَابِ لَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ الْأَكْبَرَ أَيْضًا مَكْتُوبٌ فِيهِ، ثُمَّ لَمَّا بَيَّنَ عِلْمَهُ بِالصَّغَائِرِ وَالْكَبَائِرِ ذَكَرَ أَنَّ جَمْعَ ذَلِكَ وَإِثْبَاتَهُ لِلْجَزَاءِ فَقَالَ:

لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ذَكَرَ فِيهِمْ أَمْرَيْنِ الْإِيمَانَ وَالْعَمَلَ الصَّالِحَ، وَذَكَرَ لَهُمْ أَمْرَيْنِ الْمَغْفِرَةَ وَالرِّزْقَ الْكَرِيمَ، فَالْمَغْفِرَةُ جَزَاءُ الْإِيمَانِ فَكُلُّ مُؤْمِنٍ مَغْفُورٌ لَهُ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النِّسَاءِ: ٤٨]

وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِيمَا أَخْبَرَنَا به تاج الدين عيسى بن أحمد بن الحاكم البندهي قال: أخبرني والذي عَنْ جَدِّي عَنْ مُحْيِي السُّنَّةِ عَنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ الْمَلِيجِيِّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّه النُّعَيْمِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ الْفِرَبْرِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيِّ «يُخْرِجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَفِي قَلْبِهِ وَزْنُ ذَرَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ»

وَالرِّزْقُ الْكَرِيمُ مِنَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ

<<  <  ج: ص:  >  >>