للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا

مُسْتَقِلٌّ بِالْمَفْهُومِ وَتَامٌّ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: آتَى الْمَلِكُ زَيْدًا خِلْعَةً، فَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ آتَاهُ مِنْهُ خِلْعَةً يُفِيدُ أَنَّهُ كَانَ مِنْ خَاصِّ مَا يَكُونُ لَهُ، فَكَذَلِكَ إِيتَاءُ اللَّهِ الْفَضْلَ عَامٌّ لَكِنَّ النُّبُوَّةَ مِنْ عِنْدِهِ خَاصٌّ بِالْبَعْضِ، وَمِثْلُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ [التَّوْبَةِ: ٢١] فَإِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاسِعَةٌ تَصِلُ إِلَى كُلِّ أَحَدٍ فِي الدُّنْيَا لَكِنَّ رَحْمَتَهُ فِي الْآخِرَةِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ رَحْمَةٌ مِنْ عِنْدِهِ لِخَوَاصِّهِ فَقَالَ: يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي قوله: يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَا جِبالُ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: فَضْلًا مَعْنَاهُ آتَيْنَاهُ فَضْلًا قَوْلُنَا يَا جِبَالُ، أَوْ مَنْ آتَيْنَا وَمَعْنَاهُ قُلْنَا يَا جِبَالُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قُرِئَ (أَوِّبِي) بِتَشْدِيدِ الْوَاوِ مِنَ التَّأْوِيبِ وَبِسُكُونِهَا وَضَمِّ الْهَمْزَةِ أُوبِي مِنَ الْأَوْبِ وَهُوَ الرُّجُوعُ وَالتَّأْوِيبُ التَّرْجِيعُ، وَقِيلَ بِأَنَّ مَعْنَاهُ سِيرِي مَعَهُ، وَفِي قَوْلِهِ: يُسَبِّحْنَ قَالُوا: هُوَ مِنَ السِّبَاحَةِ وَهِيَ الْحَرَكَةُ الْمَخْصُوصَةُ.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قُرِئَ وَالطَّيْرَ بِالنَّصْبِ حَمْلًا عَلَى مَحَلِّ الْمُنَادَى وَالطَّيْرُ بِالرَّفْعِ حَمْلًا عَلَى لَفْظِهِ.

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: لَمْ يَكُنِ الْمُوَافِقُ لَهُ فِي التَّأْوِيبِ مُنْحَصِرًا فِي الْجِبَالِ وَالطَّيْرِ وَلَكِنْ ذَكَرَ الْجِبَالَ، لِأَنَّ الصُّخُورَ لِلْجُمُودِ وَالطَّيْرَ لِلنُّفُورِ «١» تُسْتَبْعَدُ منها الْمُوَافَقَةُ، فَإِذَا وَافَقَهُ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ فَغَيْرُهَا أَوْلَى، ثُمَّ إِنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ لَمْ يُوَافِقْهُ وَهُمُ الْقَاسِيَةُ قُلُوبُهُمُ الَّتِي هِيَ أَشَدُّ قَسْوَةً مِنَ الْحِجَارَةِ.

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ: وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ عَطْفٌ، وَالْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قلنا المقدر في قوله يا جبال تقديره قلنا: يا جبال أَوِّبِي وَأَلَنَّا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى آتَيْنَا تَقْدِيرُهُ آتَيْنَاهُ فَضْلًا وَأَلَنَّا لَهُ.

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: أَلَانَ اللَّهُ لَهُ الْحَدِيدَ حَتَّى كَانَ فِي يَدِهِ كَالشَّمْعِ وَهُوَ فِي قُدْرَةِ اللَّهُ يَسِيرٌ، فَإِنَّهُ يَلِينُ بِالنَّارِ وَيَنْحَلُّ حَتَّى يَصِيرَ كَالْمِدَادِ الَّذِي يُكْتَبُ بِهِ، فَأَيُّ عَاقِلٍ يَسْتَبْعِدُ ذَلِكَ مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ، قِيلَ/ إِنَّهُ طَلَبَ مِنَ اللَّهِ أَنْ يُغْنِيَهُ عَنْ أَكْلِ مَالِ بَيْتِ الْمَالِ فَأَلَانَ لَهُ الْحَدِيدَ وَعَلَّمَهُ صَنْعَةَ اللَّبُوسِ وَهِيَ الدُّرُوعُ، وَإِنَّمَا اخْتَارَ اللَّهُ لَهُ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ وِقَايَةٌ لِلرُّوحِ الَّتِي هِيَ مِنْ أَمْرِهِ وَسَعْيٌ فِي حِفْظِ الْآدَمِيِّ الْمُكَرَّمِ عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْقَتْلِ، فَالزَّرَّادُ خَيْرٌ مِنَ الْقَوَّاسِ والسياف وغيرهما. ثم قال تعالى:

[[سورة سبإ (٣٤) : آية ١١]]

أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١)

قِيلَ إِنَّ (أن) هاهنا لِلتَّفْسِيرِ فَهِيَ مُفَسِّرَةٌ، بِمَعْنَى أَيِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وهو تفسير أَلَنَّا وَتَحْقِيقُهُ لِأَنْ يَعْمَلَ، يَعْنِي أَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ لِيَعْمَلَ سَابِغَاتٍ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ أَلْهَمْنَاهُ أَنِ اعْمَلْ وَأَنْ مَعَ الْفِعْلِ الْمُسْتَقْبَلِ لِلْمَصْدَرِ فَيَكُونُ مَعْنَاهُ: أَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ وَأَلْهَمْنَاهُ عَمَلَ سَابِغَاتٍ وَهِيَ الدُّرُوعُ الْوَاسِعَةُ ذَكَرَ الصِّفَةَ وَيُعْلَمُ مِنْهَا الْمَوْصُوفُ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: أَيْ لَا تُغَلِّظِ الْمَسَامِيرَ فَيَتَّسِعَ الثُّقْبُ وَلَا تُوَسِّعِ الثُّقْبَ فَتُقَلْقَلَ الْمَسَامِيرُ فِيهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ السَّرْدُ هُوَ عَمَلُ الزَّرَدِ، وَقَوْلُهُ: وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ أَيِ الزَّرَدِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ غَيْرُ مَأْمُورٍ بِهِ أَمْرَ إِيجَابٍ إِنَّمَا هُوَ اكْتِسَابٌ وَالْكَسْبُ يَكُونُ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ وَبَاقِي الْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي لِلْعِبَادَةِ فَقَدِّرْ فِي ذَلِكَ الْعَمَلَ وَلَا تَشْغَلْ جَمِيعَ أَوْقَاتِكَ بِالْكَسْبِ بَلْ حَصِّلْ بِهِ الْقُوتَ فَحَسْبُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاعْمَلُوا صالِحاً أي لستم مخلوقين إلا للعمل


(١) في الأصل: للنقور بالقاف المثناة والصواب للنفور بالفاء الفوقية الموحدة، والنفور ضد الجمود.

<<  <  ج: ص:  >  >>