للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تنزيل العزيز الرحيم إنك لمن المرسلين لتنذر، وَهَذَا مَا اخْتَارَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَقُرِئَ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَنْوِيٍّ كَأَنَّهُ قَالَ هَذَا تَنْزِيلُ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ لِتُنْذِرَ وَيَحْتَمِلُ وَجْهًا آخَرَ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً خَبَرُهُ لِتُنْذِرَ كَأَنَّهُ قَالَ تَنْزِيلُ الْعَزِيزِ لِلْإِنْذَارِ وَقَوْلُهُ: الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْمَلِكَ إِذَا أَرْسَلَ رَسُولًا فَالْمُرْسَلُ إِلَيْهِمْ إِمَّا أَنْ يُخَالِفُوا الْمُرْسِلَ وَيُهِينُوا الْمُرْسَلَ وَحِينَئِذٍ لَا يَقْدِرُ الْمَلِكُ عَلَى الِانْتِقَامِ مِنْهُمْ إِلَّا إِذَا كَانَ عَزِيزًا أَوْ يَخَافُوا الْمُرْسِلَ وَيُكْرِمُوا الْمُرْسَلَ وَحِينَئِذٍ يَرْحَمُهُمُ الْمَلِكُ، أَوْ نَقُولُ الْمُرْسَلُ يَكُونُ مَعَهُ فِي رِسَالَتِهِ مَنْعٌ عَنْ أَشْيَاءَ وَإِطْلَاقٌ لِأَشْيَاءَ فَالْمَنْعُ يُؤَكِّدُ الْعِزَّةَ وَالْإِطْلَاقُ يَدُلُّ عَلَى الرَّحْمَةِ. وقوله تعالى:

[[سورة يس (٣٦) : آية ٦]]

لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ (٦)

قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي قَوْلِهِ: لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ [الْقَصَصِ: ٤٦] وَقِيلَ الْمُرَادُ الْإِثْبَاتُ وَهُوَ عَلَى وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ، فَتَكُونُ مَا مَصْدَرِيَّةً الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً مَعْنَاهُ: لِتُنْذِرَ قَوْمًا الَّذِينَ أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ، فَعَلَى قَوْلِنَا مَا نَافِيَةٌ تَفْسِيرُهُ ظَاهِرٌ فَإِنَّ مَنْ لَمْ يُنْذَرْ آبَاؤُهُ وَبَعُدَ الْإِنْذَارُ عَنْهُ فَهُوَ يَكُونُ غَافِلًا، وَعَلَى قَوْلِنَا هِيَ لِلْإِثْبَاتِ كَذَلِكَ لِأَنَّ مَعْنَاهُ لِتُنْذِرَهُمْ إِنْذَارَ آبَائِهِمْ فَإِنَّهُمْ غَافِلُونَ، وَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: كَيْفَ يُفْهَمُ التَّفْسِيرَانِ وَأَحَدُهُمَا يَقْتَضِي أَنْ لَا يَكُونَ آبَاؤُهُمْ مُنْذَرِينَ وَالْآخَرُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونُوا مُنْذَرِينَ وَبَيْنَهُمَا تَضَادٌّ؟ نَقُولُ عَلَى قَوْلِنَا مَا نَافِيَةٌ مَعْنَاهُ مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ وَإِنْذَارُ آبَائِهِمُ الْأَوَّلِينَ لَا يُنَافِي أَنْ يَكُونَ الْمُتَقَدِّمُونَ مِنْ آبَائِهِمْ مُنْذَرِينَ وَالْمُتَأَخِّرُونَ مِنْهُمْ غَيْرَ مُنْذَرِينَ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أُنْذِرَ آباؤُهُمْ يَقْتَضِي أَنْ لَا يكون النبي صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ مَأْمُورًا بِإِنْذَارِ الْيَهُودِ لِأَنَّ آبَاءَهُمْ أُنْذِرُوا، نَقُولُ لَيْسَ كَذَلِكَ، أَمَّا عَلَى قَوْلِنَا مَا لِلْإِثْبَاتِ لَا لِلنَّفْيِ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِنَا هِيَ نَافِيَةٌ فَكَذَلِكَ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ [السَّجْدَةِ: ٣] وَقُلْنَا إِنَّ الْمُرَادَ أَنَّ آبَاءَهُمْ قَدْ أُنْذِرُوا بَعْدَ ضَلَالِهِمْ وَبَعْدَ إِرْسَالِ مَنْ تَقَدَّمَ فَإِنَّ اللَّهَ إِذَا أَرْسَلَ رَسُولًا فَمَا دَامَ فِي الْقَوْمِ مَنْ يُبَيِّنُ دِينَ ذَلِكَ النَّبِيِّ وَيَأْمُرُ بِهِ لَا يُرْسَلُ الرَّسُولُ فِي أَكْثَرِ الْأَمْرِ، فَإِذَا لَمْ يَبْقَ فِيهِمْ مَنْ يُبَيِّنُ وَيَضِلُّ الْكُلُّ وَيَتَبَاعَدُ الْعَهْدُ وَيَفْشُو الْكُفْرُ يَبْعَثُ رَسُولًا آخَرَ مُقَرِّرًا لِدِينِ مَنْ كَانَ قَبْلَهُ أَوْ وَاضِعًا لِشَرْعٍ آخَرَ، فَمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أُنْذِرَ آباؤُهُمْ أَيْ ما أنذروا بعد ما ضَلُّوا عَنْ طَرِيقِ الرَّسُولِ الْمُتَقَدِّمِ وَالْيَهُودُ وَالنَّصَارَى دَخَلُوا فِيهِ لِأَنَّهُمْ لَمْ تُنْذَرْ آبَاؤُهُمُ الْأَدْنَوْنَ بعد ما ضَلُّوا، فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى كَوْنِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ مَبْعُوثًا بِالْحَقِّ إِلَى الْخَلْقِ كَافَّةً.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: فَهُمْ غافِلُونَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْبَعْثَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا عِنْدَ الْغَفْلَةِ، أَمَّا إِنْ حَصَلَ لَهُمُ الْعِلْمُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِأَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ مَنْ يُبَلِّغُهُمْ شَرِيعَةً وَيُخَالِفُونَهُ فَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْهَلَاكُ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ تَعْذِيبًا مِنْ قَبْلِ أَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ رَسُولًا، وَكَذَلِكَ مَنْ خَالَفَ الْأُمُورَ الَّتِي لَا تَفْتَقِرُ إِلَى بَيَانِ الرُّسُلِ يَسْتَحِقُّ الْإِهْلَاكَ مِنْ غَيْرِ بَعْثَةٍ، وَلَيْسَ هَذَا قَوْلًا بِمَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ مِنَ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ الْعَقْلِيِّ بَلْ مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَوْ خَلَقَ فِي قَوْمٍ عِلْمًا بِوُجُوبِ الْأَشْيَاءِ وَتَرَكُوهُ لَا يَكُونُونَ غَافِلِينَ فَلَا يَتَوَقَّفُ تَعْذِيبُهُمْ على بعثة الرسل. ثم قال تعالى:

[[سورة يس (٣٦) : آية ٧]]

لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (٧)

<<  <  ج: ص:  >  >>