للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَهُوَ قَدْ آمَنَ دَلَّ عَلَى أَنَّ إِنْذَارَهُمْ وَإِظْهَارَهُمْ بَلَغَ إِلَى أَقْصَى الْمَدِينَةِ وَثَانِيهِمَا: أَنَّ ضَرْبَ الْمَثَلِ لَمَّا كَانَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وَسَلَّمَ تَسْلِيَةً لِقَلْبِهِ ذَكَرَ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ ذِكْرِ الرُّسُلِ سَعْيَ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَصْدِيقِ رُسُلِهِمْ وَصَبْرِهِمْ عَلَى مَا أُوذُوا، وَوُصُولُ الْجَزَاءِ الْأَوْفَى إِلَيْهِمْ لِيَكُونَ ذَلِكَ تَسْلِيَةً لِقَلْبِ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ، كَمَا أَنَّ ذِكْرَ الْمُرْسَلِينَ تَسْلِيَةٌ لِقَلْبِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ، وَفِي التَّفْسِيرِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ فِي تَنْكِيرِ الرَّجُلِ مَعَ أَنَّهُ كَانَ مَعْرُوفًا مَعْلُومًا عِنْدَ اللَّهِ فَائِدَتَانِ الْأُولَى: أَنْ يَكُونَ تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ أَيْ رَجُلٌ كَامِلٌ فِي الرُّجُولِيَّةِ/ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ مُفِيدًا لِظُهُورِ الْحَقِّ مِنْ جَانِبِ الْمُرْسَلِينَ حَيْثُ آمَنَ رَجُلٌ مِنَ الرِّجَالِ لَا مَعْرِفَةَ لَهُمْ بِهِ فَلَا يقال إنهم تواطؤا، وَالرَّجُلُ هُوَ حَبِيبٌ النَّجَّارُ كَانَ يَنْحِتُ الْأَصْنَامَ وقد آمن بمحمد صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ قَبْلَ وُجُودِهِ حَيْثُ صَارَ مِنَ الْعُلَمَاءِ بِكِتَابِ اللَّهِ، وَرَأَى فِيهِ نَعْتَ مُحَمَّدٍ صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ وَبَعْثَتَهُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: يَسْعى تَبْصِرَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَهِدَايَةٌ لَهُمْ، لِيَكُونُوا فِي النُّصْحِ بَاذِلِينَ جُهْدَهُمْ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فَائِدَةَ قَوْلِهِ: مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ وَهِيَ تَبْلِيغُهُمُ الرِّسَالَةَ بِحَيْثُ انْتَهَى إِلَى مَنْ فِي أَقْصَى الْمَدِينَةِ وَالْمَدِينَةُ هِيَ أَنْطَاكِيَّةُ، وَهِيَ كَانَتْ كَبِيرَةً شَاسِعَةً وَهِيَ الْآنَ دُونَ ذَلِكَ وَمَعَ هَذَا فَهِيَ كَبِيرَةٌ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ فِيهِ مَعَانٍ لَطِيفَةٌ الْأَوَّلُ: فِي قوله: يا قَوْمِ فَإِنَّهُ يُنْبِئُ عَنْ إِشْفَاقٍ عَلَيْهِمْ وَشَفَقَةٍ فَإِنَّ إضافتهم إلى نفسه بقوله: يا قَوْمِ يُفِيدُ أَنَّهُ لَا يُرِيدُ بِهِمْ إِلَّا خَيْرًا، وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِ مُؤْمِنِ آلِ فِرْعَوْنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ [غافر: ٣٨] فَإِنْ قِيلَ قَالَ هَذَا الرَّجُلُ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ وقال ذلك اتَّبِعُونِ فَمَا الْفَرْقُ؟ نَقُولُ هَذَا الرَّجُلُ جَاءَهُمْ وَفِي أَوَّلِ مَجِيئِهِ نَصَحَهُمْ وَمَا رَأَوْا سِيرَتَهُ، فَقَالَ: اتَّبِعُوا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَظْهَرُوا لَكُمُ الدَّلِيلَ وَأَوْضَحُوا لَكُمُ السَّبِيلَ، وَأَمَّا مُؤْمِنُ آلِ فِرْعَوْنَ فَكَانَ فِيهِمْ وَاتَّبَعَ مُوسَى وَنَصَحَهُمْ مِرَارًا فَقَالَ اتَّبِعُونِي فِي الْإِيمَانِ بِمُوسَى وَهَارُونَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَاعْلَمُوا أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ خَيْرًا لَمَا اخْتَرْتُهُ لِنَفْسِي وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنِّي اخْتَرْتُهُ، وَلَمْ يَكُنْ لِلرَّجُلِ الَّذِي جَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ أَنْ يَقُولَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ اتِّبَاعِي لَهُمْ الثَّانِي: جَمَعَ بَيْنَ إِظْهَارِ النَّصِيحَةِ وَإِظْهَارِ إِيمَانِهِ فَقَوْلُهُ: اتَّبِعُوا نَصِيحَةٌ وَقَوْلُهُ: الْمُرْسَلِينَ إِظْهَارُ أَنَّهُ آمَنَ الثَّالِثُ: قَدَّمَ إِظْهَارَ النَّصِيحَةِ عَلَى إِظْهَارِ الْإِيمَانِ لِأَنَّهُ كَانَ سَاعِيًا فِي النُّصْحِ، وَأَمَّا الْإِيمَانُ فَكَانَ قَدْ آمَنَ مِنْ قَبْلُ وَقَوْلُهُ: رَجُلٌ يَسْعى يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ مُرِيدًا لِلنُّصْحِ وَمَا ذَكَرَ فِي حِكَايَتِهِ أَنَّهُ كَانَ يُقْتَلُ وَهُوَ يَقُولُ: «اللهم اهد قومي» . ثم قال تعالى:

[[سورة يس (٣٦) : آية ٢١]]

اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٢١)

وَهَذَا فِي غَايَةِ الْحُسْنِ وَذَلِكَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ لَمَّا قَالَ: اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ كَأَنَّهُمْ مَنَعُوا كَوْنَهُمْ مُرْسَلِينَ فَنَزَلَ دَرَجَةً وَقَالَ لَا شَكَّ أَنَّ الْخَلْقَ فِي الدُّنْيَا سَالِكُونَ طَرِيقَةً وَطَالِبُونَ لِلِاسْتِقَامَةِ، وَالطَّرِيقُ إِذَا حَصَلَ فِيهِ دَلِيلٌ يَدُلُّ يَجِبُ اتِّبَاعُهُ، وَالِامْتِنَاعُ مِنَ الِاتِّبَاعِ لَا يَحْسُنُ إِلَّا عِنْدَ أَحَدِ أَمْرَيْنِ، إِمَّا مُغَالَاةِ الدَّلِيلِ فِي طَلَبِ الْأُجْرَةِ، وَإِمَّا عِنْدَ عَدَمِ الِاعْتِمَادِ عَلَى اهْتِدَائِهِ وَمَعْرِفَتِهِ الطَّرِيقَ، لَكِنَّ هَؤُلَاءِ لَا يَطْلُبُونَ أُجْرَةً وَهُمْ مُهْتَدُونَ عَالِمُونَ بِالطَّرِيقَةِ الْمُسْتَقِيمَةِ الْمُوصِلَةِ إِلَى الْحَقِّ، فَهَبْ أَنَّهُمْ لَيْسُوا بِمُرْسَلِينَ هَادِينَ، أَلَيْسُوا بِمُهْتَدِينَ، فَاتَّبِعُوهُمْ.

[[سورة يس (٣٦) : آية ٢٢]]

وَما لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٢)

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَما لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي لما قال: وَهُمْ مُهْتَدُونَ [يس: ٢١] بين ظهور

<<  <  ج: ص:  >  >>