للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَأَمَّا الْأَكْثَرُونَ فَعَلَى أَنَّ الذُّرِّيَّةَ لَا تُطْلَقُ إِلَّا عَلَى الْوَلَدِ وَعَلَى هَذَا فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ الْمَعْنَى، فَنَقُولُ الْفُلْكُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْفُلْكَ الْمُعَيَّنَ الَّذِي كَانَ لِنُوحٍ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْجِنْسَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ مَا تَرْكَبُونَ [الزُّخْرُفِ: ١٢] وَقَالَ تَعَالَى: وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ [فَاطِرٍ: ١٢] وَقَالَ تَعَالَى:

فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ [الْعَنْكَبُوتِ: ٦٥] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنِ اسْتِعْمَالِ لَامِ التَّعْرِيفِ فِي الْفُلْكِ لِبَيَانِ الْجِنْسِ، فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ سَفِينَةَ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَفِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّا حَمَلْنَا أَوْلَادَكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فِي ذَلِكَ الْفُلْكِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا بَقِيَ لِلْآدَمِيِّ نَسْلٌ وَلَا عَقِبٌ وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ: / حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ بَدَلُ قَوْلِهِ:

حَمَلْنَاهُمْ إِشَارَةٌ إِلَى كَمَالِ النِّعْمَةِ أَيْ لَمْ تَكُنِ النِّعْمَةُ مُقْتَصِرَةً عَلَيْكُمْ بَلْ مُتَعَدِّيَةً إِلَى أَعْقَابِكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، هَذَا مَا قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَيُحْتَمَلُ عِنْدِي أَنَّ يُقَالَ عَلَى هَذَا إِنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا خَصَّ الذُّرِّيَّةَ بِالذِّكْرِ، لِأَنَّ الْمَوْجُودِينَ كَانُوا كُفَّارًا لَا فَائِدَةَ فِي وُجُودِهِمْ فَقَالَ: حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ أَيْ لَمْ يَكُنِ الْحَمْلُ حَمْلًا لَهُمْ، وَإِنَّمَا كَانَ حَمْلًا لِمَا فِي أَصْلَابِهِمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا أَنَّ مَنْ حَمَلَ صُنْدُوقًا لَا قِيمَةَ لَهُ وَفِيهِ جَوَاهِرُ إِذَا قِيلَ لَهُ لِمَ تَحْمِلُ هَذَا الصُّنْدُوقَ وَتَتْعَبُ فِي حَمْلِهِ وَهُوَ لَا يُشْتَرَى بِشَيْءٍ؟ يَقُولُ: لَا أَحْمِلُ الصُّنْدُوقَ وَإِنَّمَا أَحْمِلُ مَا فِيهِ الثَّانِي: هُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالذُّرِّيَّةِ الْجِنْسُ مَعْنَاهُ حَمَلْنَا أَجْنَاسَهُمْ وَذَلِكَ لِأَنَّ وَلَدَ الْحَيَوَانِ مِنْ جِنْسِهِ وَنَوْعِهِ وَالذُّرِّيَّةُ تُطْلَقُ عَلَى الْجِنْسِ وَلِهَذَا يُطْلَقُ عَلَى النِّسَاءِ نَهْيُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وَسَلَّمَ عَنْ قَتْلِ الذَّرَارِيِّ، أَيِ النِّسَاءِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ وَإِنْ كَانَتْ صِنْفًا غَيْرَ صِنْفِ الرَّجُلِ لَكِنَّهَا مِنْ جِنْسِهِ وَنَوْعِهِ يُقَالُ ذَرَارِينَا أَيْ أَمْثَالُنَا فَقَوْلُهُ: أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ أَيْ أَمْثَالَهُمْ وَآبَاؤُهُمْ حِينَئِذٍ تَدْخُلُ فِيهِمْ الثَّالِثُ: هُوَ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: وَآيَةٌ لَهُمْ عَائِدٌ إلى العباد حيث قال: يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ [يس: ٣٠] وقال بعد ذلك: وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ [يس: ٣٣] وقال: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ [يس: ٣٧] وَقَالَ: وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ إِذَا عُلِمَ هَذَا فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَآيَةٌ لِلْعِبَادِ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّاتِ الْعِبَادِ وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالضَّمِيرِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ أَشْخَاصًا مُعَيَّنِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النِّسَاءِ: ٢٩] ويريد بعضكم بَعْضًا، وَكَذَلِكَ إِذَا تَقَاتَلَ قَوْمٌ وَمَاتَ الْكُلُّ فِي الْقِتَالِ، يُقَالُ هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ هُمْ قَتَلُوا أَنْفُسَهُمْ، فَهُمْ فِي الْمَوْضِعَيْنِ يَكُونُ عَائِدًا إِلَى الْقَوْمِ وَلَا يَكُونُ الْمُرَادُ أَشْخَاصًا مُعَيَّنِينَ، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّ بَعْضَهُمْ قَتَلَ بَعْضًا، فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:

وَآيَةٌ لَهُمْ أَيْ آيَةٌ لِكُلِّ بَعْضٍ منهم أنا حملنا ذرية كل بَعْضٍ مِنْهُمْ، أَوْ ذُرِّيَّةَ بَعْضٍ مِنْهُمْ. وَأَمَّا إِنْ قُلْنَا إِنَّ الْمُرَادَ جِنْسُ الْفُلْكِ فَهُوَ أَظْهَرُ، لِأَنَّ سَفِينَةَ نُوحٍ لَمْ تَكُنْ بِحَضْرَتِهِمْ وَلَمْ يَعْلَمُوا مَنْ حُمِلَ فِيهَا، فَأَمَّا جِنْسُ الْفُلْكِ فَإِنَّهُ ظَاهِرٌ لِكُلِّ أَحَدٍ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي سَفِينَةِ نُوحٍ: وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ [الْعَنْكَبُوتِ: ١٥] أَيْ بِوُجُودِ جِنْسِهَا وَمِثْلِهَا، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ [لُقْمَانَ: ٣١] فَنَقُولُ قَوْلُهُ تَعَالَى: حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ أَيْ ذُرِّيَّاتِ الْعِبَادِ وَلَمْ يَقُلْ حَمَلْنَاهُمْ، لِأَنَّ سُكُونَ الْأَرْضِ عَامٌّ لِكُلِّ أَحَدٍ يَسْكُنُهَا فَقَالَ: وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ إلى أن قال: فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ [يس: ٣٣] لِأَنَّ الْأَكْلَ عَامٌّ، وَأَمَّا الْحَمْلُ فِي السَّفِينَةِ فَمِنَ النَّاسِ مَنْ لَا يَرْكَبُهَا فِي عُمْرِهِ وَلَا يُحْمَلُ فِيهَا، وَلَكِنْ ذُرِّيَّةُ الْعِبَادِ لَا بدلهم مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّ فِيهِمْ مَنْ يَحْتَاجُ إِلَيْهَا فَيُحْمَلُ فِيهَا.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: جُعِلَ الْفُلْكُ تَارَةً جَمْعًا حَيْثُ قَالَ: وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ [فاطر: ١٢] جمع ماخرة وَأُخْرَى فَرْدًا حَيْثُ قَالَ: فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ نَقُولُ فِيهِ تَدْقِيقٌ مَلِيحٌ مِنْ عِلْمِ اللُّغَةِ، وَهُوَ أَنَّ الْكَلِمَةَ قَدْ تَكُونُ حَرَكَتُهَا مِثْلَ حركة تلك الكلمة في الصورة، والحركتان متخلفتان فِي الْمَعْنَى مِثَالُهَا قَوْلُكَ: سَجَدَ يَسْجُدُ سُجُودًا

<<  <  ج: ص:  >  >>