للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عَنْ ذَلِكَ الْعَمَلِ، ثُمَّ أَعَادَ تَعَالَى قَوْلَهُ: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ فَقِيلَ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْكَلِمَةِ فِيمَا تَقَدَّمَ أَحْوَالُ الدُّنْيَا، وَفِي هَذِهِ الْكَلِمَةِ أَحْوَالُ الْقِيَامَةِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَالتَّكْرِيرُ زَائِلٌ، وَقِيلَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ التَّكْرِيرِ الْمُبَالَغَةُ فِي التَّهْدِيدِ وَالتَّهْوِيلِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى خَتَمَ السُّورَةَ بِخَاتِمَةٍ شَرِيفَةٍ جَامِعَةٍ لِكُلِّ الْمَطَالِبِ الْعَالِيَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ أَهَمَّ الْمُهِمَّاتِ لِلْعَاقِلِ مَعْرِفَةُ أَحْوَالٍ ثَلَاثَةٍ فَأَوَّلُهَا مَعْرِفَةُ إِلَهِ الْعَالَمِ بِقَدْرِ الطَّاقَةِ الْبَشَرِيَّةِ، وَأَقْصَى مَا يُمْكِنُ عِرْفَانُهُ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى ثَلَاثَةُ أنواع أحدها: تنزيهه وتقديسه عن كل ما لا يليق بِصِفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ، وَهُوَ لَفْظَةُ سُبْحَانَ وَثَانِيهَا: وَصْفُهُ بِكُلِّ مَا يَلِيقُ بِصِفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ وَهُوَ قَوْلُهُ: رَبِّ الْعِزَّةِ فَإِنَّ الرُّبُوبِيَّةَ إِشَارَةٌ إِلَى التَّرْبِيَةِ وَهِيَ دَالَّةٌ عَلَى كَمَالِ الْحِكْمَةِ، وَالرَّحْمَةُ وَالْعِزَّةُ إِشَارَةٌ إِلَى كَمَالِ الْقُدْرَةِ وَثَالِثُهَا: كَوْنُهُ مُنَزَّهًا فِي الْإِلَهِيَّةِ عَنِ الشَّرِيكِ وَالنَّظِيرِ، وَقَوْلُهُ: رَبِّ الْعِزَّةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ الْقَادِرُ عَلَى جَمِيعِ الْحَوَادِثِ، لِأَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ فِي قَوْلِهِ: الْعِزَّةِ تُفِيدُ الِاسْتِغْرَاقَ، وَإِذَا كَانَ الْكُلُّ مُلْكًا لَهُ وَمِلْكًا لَهُ لَمْ يَبْقَ لِغَيْرِهِ شَيْءٌ، فَثَبَتَ أَنَّ قَوْلَهُ:

سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ كَلِمَةٌ مُحْتَوِيَةٌ عَلَى أَقْصَى الدَّرَجَاتِ وَأَكْمَلِ النِّهَايَاتِ فِي مَعْرِفَةِ إِلَهِ الْعَالَمِ وَالْمُهِمُّ الثَّانِي: مِنْ مُهِمَّاتِ الْعَاقِلِ أَنْ يَعْرِفَ أَنَّهُ كَيْفَ يَنْبَغِي أَنْ يُعَامِلَ نَفْسَهُ وَيُعَامِلَ الْخَلْقَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَوِيَّةِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ أَكْثَرَ الْخَلْقِ نَاقِصُونِ وَلَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ مُكَمِّلٍ يُكَمِّلُهُمْ، ومرشد يرشدهم، وهاد يهديهم، وما ذاك إِلَّا الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَبَدِيهَةُ الْفِطْرَةِ شَاهِدَةٌ بِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى النَّاقِصِ الِاقْتِدَاءُ بِالْكَامِلِ، فَنَبَّهَ عَلَى هَذَا الْحَرْفِ بِقَوْلِهِ: وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ فِي الْكَمَالِ اللَّائِقِ بِالْبَشَرِ فَاقُوا غَيْرَهُمْ، وَلَا جَرَمَ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مَنْ سِوَاهُمُ الِاقْتِدَاءُ بِهِمْ وَالْمُهِمُّ الثَّالِثُ: مِنْ مُهِمَّاتِ الْعَاقِلِ أَنْ يَعْرِفَ أَنَّهُ كَيْفَ يَكُونُ حَالُهُ بَعْدَ الْمَوْتِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ مَعْرِفَةَ هَذِهِ الْحَالَةِ قَبْلَ الْمَوْتِ صَعْبَةٌ، فَالِاعْتِمَادُ فِيهَا عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ أَنَّهُ إِلَهُ الْعَالَمِ غَنِيٌّ رَحِيمٌ، وَالْغَنِيُّ الرَّحِيمُ لَا يُعَذِّبُ، فَنَبَّهَ عَلَى هَذَا الْحَرْفِ بِقَوْلِهِ: وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ وَذَلِكَ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْحَمْدِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِالْإِنْعَامِ الْعَظِيمِ، فَبَيَّنَ بِهَذَا كَوْنَهُ مُنْعِمًا، وَظَاهِرُ كَوْنِهِ غَنِيًّا عَنِ الْعَالَمِينَ، وَمِنْ هَذَا وَصْفُهُ كَانَ الْغَالِبُ مِنْهُ هُوَ الرَّحْمَةُ وَالْفَضْلُ وَالْكَرَمُ، فَكَانَ هَذَا الْحَرْفُ مُنَبِّهًا عَلَى سَلَامَةِ الْحَالِ بَعْدَ الْمَوْتِ، فَظَهَرَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ هَذِهِ الْخَاتِمَةَ كَالصَّدَفَةِ الْمُحْتَوِيَةِ عَلَى دُرَرٍ أَشْرَفَ مِنْ دَرَارِي الْكَوَاكِبِ، وَنَسْأَلُ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حُسْنَ الْخَاتِمَةِ وَالْعَافِيَةَ فِي الدنيا والآخرة.

تم تفسير هذه السورة ضحوة يوم الجمعة السابع عشر من ذِي الْقِعْدَةِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسِتِّمِائَةٍ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ محمد وآله وصحبه وأزواجه وذرياته أجمعين.

<<  <  ج: ص:  >  >>