للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عَلَى الْكُفْرِ، ثُمَّ إِنَّهُمْ أَصَرُّوا عَلَى الْكُفْرِ، وَلَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِمُ الْعَذَابُ، فَصَارَ ذَلِكَ سَبَبًا لِشَكِّهِمْ فِي صِدْقِهِ، وَقَالُوا:

اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ [الْأَنْفَالِ: ٣٢] فَقَالَ: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي مَعْنَاهُ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ مَعْنَاهُ أَنَّ ذَلِكَ الشَّكَّ إِنَّمَا حَصَلَ بِسَبَبِ عَدَمِ نُزُولِ الْعَذَابِ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: مِنَ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي الْجَوَابِ عَنْ تِلْكَ الشُّبْهَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ وَتَقْرِيرُ هَذَا الْجَوَابِ أَنَّ مَنْصِبَ النُّبُوَّةِ مَنْصِبٌ عَظِيمٌ وَدَرَجَةٌ عَالِيَةٌ وَالْقَادِرُ عَلَى هِبَتِهَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَزِيزًا أَيْ كَامِلَ الْقُدْرَةِ وَوَهَّابًا أَيْ عَظِيمَ الْجُودِ وَذَلِكَ هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَإِذَا كَانَ هُوَ تَعَالَى كَامِلَ الْقُدْرَةِ وَكَامِلَ الْجُودِ، لَمْ يَتَوَقَّفْ كَوْنُهُ وَاهِبًا لِهَذِهِ النِّعْمَةِ عَلَى كَوْنِ الْمَوْهُوبِ مِنْهُ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا، وَلَمْ يَخْتَلِفْ ذَلِكَ أَيْضًا بِسَبَبِ أَنَّ أَعْدَاءَهُ يُحِبُّونَهُ أَوْ يَكْرَهُونَهُ وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي الْجَوَابِ عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ وَاعْلَمْ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ مُغَايِرًا لِلْمُرَادِ مِنْ قَوْلِهِ: أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ وَالْفَرْقُ أَنَّ خَزَائِنَ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ كَمَا قَالَ: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ ومن جملة تلك الخزائن هو هذه السموات وَالْأَرْضُ، فَلَمَّا ذَكَّرَنَا الْخَزَائِنَ أَوَّلًا عَلَى عُمُومِهَا أَرْدَفَهَا بِذِكْرِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَعْنِي أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ أَحَدُ أَنْوَاعِ خَزَائِنِ اللَّهِ، فَإِذَا كُنْتُمْ عَاجِزِينَ عَنْ هَذَا الْقِسْمِ، فَبِأَنْ تَكُونُوا عَاجِزِينَ عَنْ كُلِّ خَزَائِنِ اللَّهِ كَانَ أَوْلَى، فَهَذَا مَا أَمْكَنَنِي ذِكْرُهُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ، أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ فَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ إِنِ ادَّعَوْا أَنَّ لهم ملك السموات وَالْأَرْضِ فَعِنْدَ هَذَا يُقَالُ لَهُمُ ارْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ وَاصْعَدُوا فِي الْمَعَارِجِ الَّتِي يُتَوَصَّلُ بِهَا إِلَى الْعَرْشِ حَتَّى يَرْتَقُوا عَلَيْهِ وَيُدَبِّرُوا أَمْرَ الْعَالَمِ وَمَلَكُوتَ اللَّهِ وَيُنْزِلُوا الْوَحْيَ عَلَى مَنْ يَخْتَارُونَ، وَاعْلَمْ أَنَّ حُكَمَاءَ الْإِسْلَامِ اسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ: فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ عَلَى أَنَّ الْأَجْرَامَ الْفَلَكِيَّةَ وَمَا أَوْدَعَ اللَّهُ فِيهَا مِنَ الْقُوَى وَالْخَوَاصِّ أَسْبَابٌ لِحَوَادِثِ الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى الْفَلَكِيَّاتِ أَسْبَابًا وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَاهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: جُنْدٌ مَا هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ فَفِيهِ مَقَامَانِ مِنَ الْبَحْثِ أَحَدُهُمَا: فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ وَالثَّانِي:

فِي كَيْفِيَّةِ تَعَلُّقِهَا بِمَا قَبْلَهَا أَمَّا الْمَقَامُ الْأَوَّلُ: فَقَوْلُهُ: جُنْدٌ مُبْتَدَأٌ وَمَا لِلْإِيهَامِ كَقَوْلِهِ جِئْتُ لِأَمْرٍ مَا، وَعِنْدِي طَعَامٌ مَا، ومِنَ الْأَحْزابِ صفة لجند ومَهْزُومٌ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ وَأَمَّا قَوْلُهُ: هُنالِكَ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِجُنْدٍ أَيْ جُنْدٌ ثَابِتٌ هُنَالِكَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِمَهْزُومٍ مَعْنَاهُ أَنَّ الْجُنْدَ مِنَ الْأَحْزَابِ مَهْزُومٌ هُنَالِكَ، أَيْ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ الَّذِي كَانُوا يَذْكُرُونَ/ فِيهِ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ الطَّاعِنَةَ فِي نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَّا الْمَقَامُ الثَّانِي: فَهُوَ أَنَّهُ تعالى لما قال إن كانوا يملكون السموات وَالْأَرْضَ فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ، ذَكَرَ عَقِيبَهُ أَنَّهُمْ جند من الأحزاب منهزمون ضعيفون، فكيف يكونون مالكي السموات وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا، قَالَ قَتَادَةُ هُنَالِكَ إِشَارَةٌ إِلَى يَوْمِ بَدْرٍ فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِمَكَّةَ أَنَّهُ سَيُهْزَمُ جُنْدُ الْمُشْرِكِينَ فَجَاءَ تَأْوِيلُهَا يَوْمَ بَدْرٍ، وَقِيلَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، وَالْأَصْوَبُ عِنْدِي حَمْلُهُ عَلَى يَوْمِ فَتْحِ مَكَّةَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ جُنْدٌ سَيَصِيرُونَ مُنْهَزِمِينَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي ذَكَرُوا فِيهِ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ وَذَلِكَ الْمَوْضِعُ هُوَ مَكَّةُ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ سَيَصِيرُونَ مُنْهَزِمِينَ فِي مَكَّةَ وَمَا ذَاكَ إِلَّا يَوْمَ الفتح. والله أعلم.

[سورة ص (٣٨) : الآيات ١٢ الى ٢٠]

كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ (١٢) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ (١٣) إِنْ كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ (١٤) وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً مَا لَها مِنْ فَواقٍ (١٥) وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ (١٦)

اصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (١٧) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ (١٨) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (١٩) وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ (٢٠)

<<  <  ج: ص:  >  >>