للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

يَتَّصِلَا وَهُمَا لُغَتَانِ نَجَّى وَأَنْجَى وَنَجَا بِنَفْسِهِ، وَقَالُوا لِلْمَكَانِ الْعَالِي: نَجْوَةٌ لِأَنَّ مَنْ صَارَ إِلَيْهِ نَجَا، أَيْ تَخَلَّصَ وَلِأَنَّ الْمَوْضِعَ الْمُرْتَفِعَ بَائِنٌ عَمَّا انْحَطَّ عَنْهُ فَكَأَنَّهُ مُتَخَلِّصٌ مِنْهُ. قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ: أَصْلُ آلٍ أَهْلٌ وَلِذَلِكَ يُصَغَّرُ بِأُهَيْلٍ فَأُبْدِلَتْ هَاؤُهُ أَلِفًا وَخُصَّ اسْتِعْمَالُهُ بِأُولِي الْخَطَرِ وَالشَّأْنِ، كَالْمُلُوكِ وَأَشْبَاهِهِمْ وَلَا يُقَالُ: آلُ الْحَجَّامِ وَالْإِسْكَافِ، قَالَ عِيسَى: الْأَهْلُ أَعَمُّ مِنَ الْآلِ، يُقَالُ: أَهْلُ الْكُوفَةِ وَأَهْلُ الْبَلَدِ وَأَهْلُ الْعِلْمِ وَلَا يُقَالُ: آلُ الْكُوفَةِ وَآلُ الْبَلَدِ وَآلُ الْعِلْمِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: الْأَهْلُ هُمْ خَاصَّةُ الشَّيْءِ مِنْ جِهَةِ تَغْلِيبِهِ عَلَيْهِمْ، وَالْآلُ خَاصَّةُ الرَّجُلِ مِنْ جِهَةِ قَرَابَةٍ أَوْ صُحْبَةٍ. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ أَنَّهُ سَمِعَ فَصِيحًا يَقُولُ: أَهْلُ مَكَّةَ آلُ اللَّهِ. أَمَّا فِرْعَوْنُ فَهُوَ عَلَمٌ لِمَنْ مَلَكَ مِصْرَ مِنَ الْعَمَالِقَةِ كَقَيْصَرَ وَهِرَقْلَ لِمَلِكِ الرُّومِ وَكِسْرَى لِمَلِكِ الْفُرْسِ وَتُبَّعٍ لِمَلِكِ الْيَمَنِ وَخَاقَانَ لِمَلِكِ التُّرْكِ، وَاخْتَلَفُوا فِي فِرْعَوْنَ مِنْ وَجْهَيْنِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي اسْمِهِ فَحَكَى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ قَوْمٍ أَنَّهُمْ قَالُوا:

مُصْعَبُ بْنُ رَيَّانَ، وَقَالَ ابْنُ إِسْحَقَ: هُوَ الْوَلِيدُ بْنُ مُصْعَبٍ، وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْفَرَاعِنَةِ أَحَدٌ أَشَدَّ غِلْظَةً وَلَا أَقْسَى قَلْبًا مِنْهُ، وَذَكَرَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابَيْنِ قَالُوا: إِنَّ اسْمَ فِرْعَوْنَ كَانَ قَابُوسَ وَكَانَ مِنَ الْقِبْطِ، الثَّانِي: قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: إِنَّ فِرْعَوْنَ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ هُوَ فِرْعَوْنُ مُوسَى وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ، إِذْ كَانَ بَيْنَ دُخُولِ يُوسُفَ مِصْرَ وَبَيْنَ أَنْ دَخَلَهَا مُوسَى أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعِمِائَةِ سَنَةٍ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَقَ: هُوَ غَيْرُ فِرْعَوْنَ يُوسُفَ وَأَنَّ فِرْعَوْنَ يُوسُفَ كَانَ اسْمُهُ الرَّيَّانَ بْنَ الْوَلِيدِ، أَمَّا آلُ فِرْعَوْنَ فَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُرَادَ منه هاهنا مَنْ كَانَ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ وَهُمُ الَّذِينَ عَزَمُوا عَلَى إِهْلَاكِ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِيَكُونَ تَعَالَى مُنْجِيًا لَهُمْ مِنْهُمْ بِمَا تَفَضَّلَ بِهِ مِنَ الْأَحْوَالِ الَّتِي تُوجِبُ بَقَاءَهُمْ وَهَلَاكَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: يَسُومُونَكُمْ فَهُوَ مَنْ سَامَهُ خَسْفًا إِذَا أَوْلَاهُ ظُلْمًا، قَالَ عَمْرُو بْنُ كُلْثُومٍ:

إِذَا مَا الْمَلِكُ سَامَ النَّاسَ خَسْفًا ... أَبَيْنَا أَنْ نُقِرَّ الْخَسْفَ فِينَا

وَأَصْلُهُ مِنْ سَامَ السِّلْعَةَ إِذَا طَلَبَهَا، كَأَنَّهُ بِمَعْنَى يَبْغُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُرِيدُونَهُ بِكُمْ، وَالسُّوءُ مَصْدَرُ سَاءَ بِمَعْنَى السَّيِّئِ، يُقَالُ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ سُوءِ الْخُلُقِ وَسُوءِ الْفِعْلِ يُرَادُ قُبْحُهُمَا، وَمَعْنَى سُوءِ الْعَذَابِ وَالْعَذَابُ كُلُّهُ سَيِّئٌ أَشَدُّهُ وَأَصْعَبُهُ كَأَنَّ قُبْحَهُ [زَادَ] بِالْإِضَافَةِ إِلَى سَاءَ، وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْمُرَادِ مِنْ «سُوءِ الْعَذَابِ» فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: إِنَّهُ جَعَلَهُمْ خَوَلًا وَخَدَمًا لَهُ وَصَنَّفَهُمْ فِي أَعْمَالِهِ أَصْنَافًا، فَصِنْفٌ كَانُوا يَبْنُونَ لَهُ، وَصِنْفٌ كَانُوا يَحْرُثُونَ لَهُ، وَصِنْفٌ كَانُوا يَزْرَعُونَ لَهُ، فَهُمْ كَانُوا فِي أَعْمَالِهِ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ فِي نَوْعٍ مِنْ أَعْمَالِهِ كَانَ يَأْمُرُ بِأَنْ يُوضَعَ عَلَيْهِ جِزْيَةٌ يُؤَدِّيهَا، وَقَالَ السُّدِّيُّ: كَانَ قَدْ جَعَلَهُمْ فِي الْأَعْمَالِ الْقَذِرَةِ الصَّعْبَةِ مِثْلِ كَنْسِ الْمَبْرَزِ وَعَمَلِ الطِّينِ وَنَحْتِ الْجِبَالِ، وَحَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُمْ قَالُوا لِمُوسَى: أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنا [الْأَعْرَافِ: ١٢٩] . وَقَالَ مُوسَى لِفِرْعَوْنَ: وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ [الشُّعَرَاءِ: ٢٢] ، وَاعْلَمْ أَنَّ كَوْنَ الْإِنْسَانِ/ تَحْتَ يَدِ الْغَيْرِ بِحَيْثُ يَتَصَرَّفُ فِيهِ كَمَا يَشَاءُ لَا سِيَّمَا إِذَا اسْتَعْمَلَهُ فِي الْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ الصَّعْبَةِ الْقَذِرَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ مِنْ أَشَدِّ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ، حَتَّى إِنَّ مَنْ هَذِهِ حَالَتُهُ رُبَّمَا تَمَنَّى الْمَوْتَ فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى عَظِيمَ نِعَمِهِ عَلَيْهِمْ بِأَنْ نَجَّاهُمْ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَتْبَعَ ذَلِكَ بِنِعْمَةٍ أُخْرَى أَعْظَمَ مِنْهَا، فَقَالَ:

يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَمَعْنَاهُ يقتلون الذكورة من الأولاد دون الإناث. وهاهنا أَبْحَاثٌ.

الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: أَنَّ ذَبْحَ الذُّكُورِ دُونَ الْإِنَاثِ مَضَرَّةٌ مِنْ وُجُوهٍ، أَحَدُهَا: أَنَّ ذَبْحَ الْأَبْنَاءِ يَقْتَضِي فَنَاءَ الرِّجَالِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي انْقِطَاعَ النَّسْلِ، لِأَنَّ النِّسَاءَ إِذَا انْفَرَدْنَ فَلَا تَأْثِيرَ لهن ألبتة في ذلك، وذلك يفضي آخِرَ الْأَمْرِ إِلَى هَلَاكِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَثَانِيهَا: أَنَّ هَلَاكَ الرِّجَالِ يَقْتَضِي فَسَادَ مَصَالِحِ النِّسَاءِ فِي أَمْرِ الْمَعِيشَةِ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ لَتَتَمَنَّى