للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَقَالَ: رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ فَكَوْنُهُ رَبًّا مُشْعِرٌ بِالتَّرْبِيَةِ وَالْإِحْسَانِ وَالْكَرَمِ وَالْجُودِ، وَكَوْنُهُ غَفَّارًا مُشْعِرٌ بِالتَّرْغِيبِ، وَهَذَا الْمَوْجُودُ هُوَ الَّذِي تَجِبُ عِبَادَتُهُ، لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُخْشَى عِقَابُهُ وَيُرْجَى فَضْلُهُ وَثَوَابُهُ. / وَنَذْكُرُ طَرِيقَةً أُخْرَى فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَاتِ، فَنَقُولُ إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ مِنْ صِفَاتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ خمسة الْوَاحِدَ وَالْقَهَّارَ وَالرَّبَّ وَالْعَزِيزَ وَالْغَفَّارَ، أَمَّا كَوْنُهُ وَاحِدًا فَهُوَ الَّذِي وَقَعَ الْخِلَافُ فِيهِ بَيْنَ أَهْلِ الْحَقِّ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ وَاسْتَدَلَّ تَعَالَى عَلَى كَوْنِهِ وَاحِدًا بِكَوْنِهِ قَهَّارًا وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَ هَذِهِ الدَّلَالَةِ إِلَّا أَنَّ كَوْنَهُ قَهَّارًا وَإِنْ دَلَّ عَلَى إِثْبَاتِ الْوَحْدَانِيَّةِ إِلَّا أَنَّهُ يُوجِبُ الخوف الشديد فأردفه تعالى بذكر صفات ثلاثة دَالَّةٍ عَلَى الرَّحْمَةِ وَالْفَضْلِ وَالْكَرَمِ أَوَّلُهَا: كَوْنُهُ ربا للسموات وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَهَذَا إِنَّمَا تَتِمُّ مَعْرِفَتُهُ بِالنَّظَرِ فِي آثَارِ حِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي خلق السموات وَالْأَرْضِ وَالْعَنَاصِرِ الْأَرْبَعَةِ وَالْمَوَالِيدِ الثَّلَاثَةِ، وَذَلِكَ بَحْرٌ لَا سَاحِلَ لَهُ فَإِذَا تَأَمَّلْتَ فِي آثَارِ حِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ فِي خَلْقِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ عَرَفْتَ حِينَئِذٍ تَرْبِيَتَهُ لِلْكُلِّ وَذَلِكَ يُفِيدُ الرَّجَاءَ الْعَظِيمَ وَثَانِيهَا: كَوْنُهُ عَزِيزًا وَالْفَائِدَةُ فِي ذِكْرِهِ أَنَّ لقائل أن يقول هب أنه رب ومربي وَكَرِيمٌ إِلَّا أَنَّهُ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى كُلِّ الْمَقْدُورَاتِ، فَأَجَابَ عَنْهُ بِأَنَّهُ عَزِيزٌ أَيْ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ الْمُمْكِنَاتِ فَهُوَ يَغْلِبُ الْكُلَّ وَلَا يَغْلِبُهُ شَيْءٌ وَثَالِثُهَا: كَوْنُهُ غَفَّارًا وَالْفَائِدَةُ فِي ذِكْرِهِ أَنَّ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ هَبْ أَنَّهُ رَبٌّ وَمُحْسِنٌ وَلَكِنَّهُ يَكُونُ كَذَلِكَ فِي حَقِّ الْمُطِيعِينَ الْمُخْلِصِينَ فِي الْعِبَادَةِ، فَأَجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ مَنْ بَقِيَ عَلَى الْكُفْرِ سَبْعِينَ سَنَةً ثُمَّ تَابَ فَإِنِّي أُزِيلُ اسْمَهُ عَنْ دِيوَانِ الْمُذْنِبِينَ وَأَسْتُرُ عَلَيْهِ بِفَضْلِي وَرَحْمَتِي جَمِيعَ ذُنُوبِهِ وَأُوصِلُهُ إِلَى دَرَجَاتِ الْأَبْرَارِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ ذَلِكَ قَالَ: قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ وَهَذَا النَّبَأُ الْعَظِيمُ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْإِلَهَ وَاحِدٌ نَبَأٌ عَظِيمٌ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ أَنَّ الْقَوْلَ بِالنُّبُوَّةِ نَبَأٌ عَظِيمٌ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ أَنَّ الْقَوْلَ بِإِثْبَاتِ الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ وَالْقِيَامَةِ نَبَأٌ عَظِيمٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذِهِ الْمَطَالِبَ الثَّلَاثَةَ كَانَتْ مَذْكُورَةً فِي أَوَّلِ السُّورَةِ وَلِأَجْلِهَا انْجَرَّ الْكَلَامُ إِلَى كُلِّ مَا سَبَقَ ذِكْرُهُ، وَيُمْكِنُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ كَوْنَ الْقُرْآنِ مُعْجِزًا لِأَنَّ هَذَا أَيْضًا قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي قَوْلِهِ: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ [ص: ٢٩] وَهَؤُلَاءِ الْأَقْوَامُ أَعْرَضُوا عَنْهُ عَلَى مَا قَالَ قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ:

أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ تَرْغِيبٌ فِي النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ وَمَنْعٌ مِنَ التَّقْلِيدِ، لِأَنَّ هَذِهِ الْمَطَالِبَ مَطَالِبٌ شَرِيفَةٌ عَالِيَةٌ، فَإِنَّ بِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ فِيهَا عَلَى الْحَقِّ يَفُوزُ بِأَعْظَمِ أَبْوَابِ السَّعَادَةِ، وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ فِيهَا عَلَى الْبَاطِلِ وَقَعَ فِي أَعْظَمِ أَبْوَابِ الشَّقَاوَةِ فَكَانَتْ هَذِهِ الْمَبَاحِثُ أَنْبَاءً عَظِيمَةً وَمَطَالِبَ عَالِيَةً بَهِيَّةً، وَصَرِيحُ الْعَقْلِ يُوجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَأْتِيَ فِيهَا بِالِاحْتِيَاطِ التَّامِّ وَأَنْ لَا يَكْتَفِيَ بِالْمُسَاهَلَةِ وَالْمُسَامَحَةِ.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ فَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى رَغَّبَ الْمُكَلَّفِينَ فِي الِاحْتِيَاطِ فِي هَذِهِ المسائل الأربعة، وَبَالَغَ فِي ذَلِكَ التَّرْغِيبِ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا نَبَأٌ عَظِيمٌ، وَالنَّبَأُ الْعَظِيمُ يَجِبُ الِاحْتِيَاطُ فِيهِ الثَّانِي: أَنَّ الْمَلَأَ الْأَعْلَى اخْتَصَمُوا وَأَحْسَنُ مَا قِيلَ فِيهِ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ [الْبَقَرَةِ: ٣٠] وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ قَالُوا أَيُّ فَائِدَةٍ فِي خَلْقِ/ الْبَشَرِ مَعَ أَنَّهُمْ يَشْتَغِلُونَ بِقَضَاءِ الشَّهْوَةِ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَبِإِمْضَاءِ الْغَضَبِ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ فَقَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ وَتَقْرِيرُ هَذَا الْجَوَابِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، أَنْ يُقَالَ إِنَّ الْمَخْلُوقَاتِ بِحَسَبِ الْقِسْمَةِ الْعَقْلِيَّةِ عَلَى أَقْسَامٍ أَرْبَعَةٍ: أَحَدُهَا: الَّذِينَ حَصَلَ لَهُمُ الْعَقْلُ وَالْحِكْمَةُ، وَلَمْ تَحْصُلْ

<<  <  ج: ص:  >  >>