للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَقَالَ: عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ [الْإِنْسَانِ: ٦] وَلِأَنَّ لَفْظَ الْعِبَادِ مَذْكُورٌ فِي مَعْرِضِ التَّعْظِيمِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَقَعَ إِلَّا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، إذا ثبت هذا ظهر أن قوله يا عِبادِيَ مُخْتَصٌّ بِالْمُؤْمِنِينَ، وَلِأَنَّ الْمُؤْمِنَ هُوَ الَّذِي يَعْتَرِفُ بكونه عبد الله، أما المشركون فإنهم يسمعون أَنْفُسَهُمْ بِعَبْدِ اللَّاتِ وَالْعُزَّى وَعَبْدِ الْمَسِيحِ «١» ، فَثَبَتَ أن قوله يا عِبادِيَ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِالْمُؤْمِنِينَ، إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ:

الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَهَذَا عَامٌّ فِي حَقِّ جَمِيعِ الْمُسْرِفِينَ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً وَهَذَا يَقْتَضِي كَوْنَهُ غَافِرًا لِجَمِيعِ الذُّنُوبِ الصَّادِرَةِ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ، وَذَلِكَ هُوَ الْمَقْصُودُ فَإِنْ قِيلَ هَذِهِ الْآيَةُ لَا يُمْكِنُ إِجْرَاؤُهَا عَلَى ظَاهِرِهَا، وَإِلَّا لَزِمَ الْقَطْعُ بِكَوْنِ الذُّنُوبِ مَغْفُورَةً قَطْعًا، وَأَنْتُمْ لَا تَقُولُونَ بِهِ، فَمَا هُوَ مَدْلُولُ هَذِهِ الْآيَةِ لَا تَقُولُونَ بِهِ، وَالَّذِي تَقُولُونَ بِهِ لَا تَدُلُّ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ، فَسَقَطَ الِاسْتِدْلَالُ، وَأَيْضًا إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ عَقِيبَ هَذِهِ الْآيَةِ وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ إِلَى قَوْلِهِ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ أَوَّلِ الْآيَةِ أَنَّهُ تَعَالَى غَفَرَ جَمِيعَ الذُّنُوبِ قَطْعًا لَمَا أَمَرَ عَقِيبَهُ بِالتَّوْبَةِ، وَلَمَا خَوَّفَهُمْ بِنُزُولِ الْعَذَابِ عَلَيْهِمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ، وَأَيْضًا قَالَ: أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَلَوْ كَانَتِ الذُّنُوبُ كُلُّهَا مَغْفُورَةً، فَأَيُّ حَاجَةٍ بِهِ إلى أن يقول:

يا حَسْرَتى عَلى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ؟ وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ لَفْظِ الْآيَةِ لَكَانَ ذَلِكَ إِغْرَاءً بِالْمَعَاصِي وَإِطْلَاقًا فِي الْإِقْدَامِ عَلَيْهَا، وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِحِكْمَةِ اللَّهِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَجَبَ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ مِنْهُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَظُنَّ الْعَاصِي أَنَّهُ لَا مَخْلَصَ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ الْبَتَّةَ، فَإِنَّ مَنِ اعْتَقَدَ ذَلِكَ فَهُوَ قَانِطٌ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، إِذْ لَا أَحَدَ مِنَ الْعُصَاةِ الْمُذْنِبِينَ إِلَّا وَمَتَى تَابَ زَالَ عِقَابُهُ وَصَارَ مِنْ أَهْلِ الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ، فَمَعْنَى قَوْلِهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً أَيْ بِالتَّوْبَةِ وَالْإِنَابَةِ وَالْجَوَابُ قَوْلُهُ الْآيَةُ تَقْتَضِي كَوْنَ كُلِّ الذُّنُوبِ مَغْفُورَةً قَطْعًا وَأَنْتُمْ لَا تَقُولُونَ بِهِ، قُلْنَا بَلْ نَحْنُ نَقُولُ بِهِ وَنَذْهَبُ إِلَيْهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ صِيغَةَ يَغْفِرُ صِيغَةُ الْمُضَارِعِ، وَهِيَ لِلِاسْتِقْبَالِ، وَعِنْدَنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُخْرِجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَصَاحِبُ الْكَبِيرَةِ مَغْفُورٌ لَهُ قَطْعًا، إِمَّا قَبْلَ الدُّخُولِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، وَإِمَّا بَعْدَ الدُّخُولِ فِيهَا، فَثَبَتَ أَنَّ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ الْآيَةِ فَهُوَ عَيْنُ مَذْهَبِنَا.

أَمَّا قَوْلُهُ لَوْ صَارَتِ الذُّنُوبُ بِأَسْرِهَا مَغْفُورَةً لَمَا أَمَرَ بِالتَّوْبَةِ، فَالْجَوَابُ أَنَّ عِنْدَنَا التَّوْبَةَ وَاجِبَةٌ وَخَوْفَ الْعِقَابِ قَائِمٌ، فَإِنَّا لَا نَقْطَعُ بِإِزَالَةِ الْعِقَابِ بِالْكُلِّيَّةِ، بَلْ نَقُولُ لَعَلَّهُ يَعْفُو مُطْلَقًا، وَلَعَلَّهُ يُعَذِّبُ بِالنَّارِ مُدَّةً ثُمَّ يَعْفُو بَعْدَ ذَلِكَ، وَبِهَذَا الْحَرْفِ يُخَرَّجُ الْجَوَابُ عَنْ بَقِيَّةِ الْأَسْئِلَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى الرَّحْمَةِ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ سَمَّى/ الْمُذْنِبَ بِالْعَبْدِ وَالْعُبُودِيَّةُ مُفَسَّرَةٌ بِالْحَاجَةِ وَالذِّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ، وَاللَّائِقُ بِالرَّحِيمِ الْكَرِيمِ إِفَاضَةُ الْخَيْرِ وَالرَّحْمَةِ عَلَى الْمِسْكِينِ الْمُحْتَاجِ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى أَضَافَهُمْ إِلَى نَفْسِهِ بِيَاءِ الإضافة فقال: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا وَشَرَفُ الْإِضَافَةِ إِلَيْهِ يُفِيدُ الْأَمْنَ مِنَ الْعَذَابِ الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَمَعْنَاهُ أَنَّ ضَرَرَ تِلْكَ الذُّنُوبِ مَا عَادَ إِلَيْهِ بَلْ هُوَ عَائِدٌ إِلَيْهِمْ، فَيَكْفِيهِمْ مِنْ تِلْكَ الذُّنُوبِ عَوْدُ مَضَارِّهَا إِلَيْهِمْ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى إِلْحَاقِ ضَرَرٍ آخَرَ بِهِمْ الرابع:


(١) وهذا أيضا هو الغالب، وإلا فقد سموا عبد الله كثيرا قبل الإسلام وبعده، لأن الكافرين لا ينكرون وجود الله بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزمر: ٣٨] .

<<  <  ج: ص:  >  >>