للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

اعْلَمْ أَنَّ هَذَا مِنْ بَقِيَّةِ كَلَامِ الَّذِي آمَنَ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ، وَقَدْ كَانَ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ بِمُوسَى وَالتَّمَسُّكِ بِطَرِيقَتِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ نَادَى فِي قَوْمِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ: فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى دَعَاهُمْ إِلَى قَبُولِ ذَلِكَ الدِّينِ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ، وَفِي الْمَرَّتَيْنِ الْبَاقِيَتَيْنِ عَلَى سَبِيلِ التفصيل.

أما الإجمال فهو قوله يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ اتَّبِعُونِ طَرِيقَةَ التَّقْلِيدِ، لِأَنَّهُ قَالَ بَعْدَهُ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ وَالْهَدْيُ هُوَ الدِّلَالَةُ، وَمِنْ بَيَّنَ الْأَدِلَّةَ لِلْغَيْرِ يُوصَفُ بِأَنَّهُ هَدَاهُ، وَسَبِيلُ الرَّشَادِ هُوَ سَبِيلُ الثَّوَابِ وَالْخَيْرِ وَمَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ، لِأَنَّ الرَّشَادَ نَقِيضُ الْغَيِّ، وَفِيهِ تَصْرِيحٌ بِأَنَّ مَا عَلَيْهِ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ هُوَ سَبِيلُ الْغَيِّ.

وَأَمَّا التَّفْصِيلُ فَهُوَ أَنَّهُ بَيَّنَ حَقَارَةَ حَالِ الدُّنْيَا وَكَمَالَ حَالِ الْآخِرَةِ، أَمَّا حَقَارَةُ الدُّنْيَا فهي قوله يَا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يَسْتَمْتِعُ بِهَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي أَيَّامٍ قَلِيلَةٍ، ثُمَّ تَنْقَطِعُ وَتَزُولُ، وَأَمَّا الْآخِرَةُ فَهِيَ دَارُ الْقَرَارِ وَالْبَقَاءِ وَالدَّوَامِ، وَحَاصِلُ الْكَلَامِ أَنَّ الْآخِرَةَ بَاقِيَةٌ دَائِمَةٌ وَالدُّنْيَا مُنْقَضِيَةٌ مُنْقَرِضَةٌ، وَالدَّائِمُ خَيْرٌ مِنَ الْمُنْقَضِي، وَقَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا/ ذَهَبًا فَانِيًا، وَالْآخِرَةُ خَزَفًا بَاقِيًا، لَكَانَتِ الْآخِرَةُ خَيْرًا مِنَ الدُّنْيَا، فَكَيْفَ وَالدُّنْيَا خَزَفٌ فَانٍ، وَالْآخِرَةُ ذَهَبٌ بَاقٍ.

وَاعْلَمْ أَنَّ الْآخِرَةَ كَمَا أَنَّ النَّعِيمَ فِيهَا دَائِمٌ فَكَذَلِكَ الْعَذَابُ فِيهَا دَائِمٌ، وَأَنَّ التَّرْغِيبَ فِي النَّعِيمِ الدَّائِمِ وَالتَّرْهِيبَ عَنِ الْعَذَابِ الدَّائِمِ مِنْ أَقْوَى وُجُوهِ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، ثُمَّ بَيَّنَ كَيْفَ تَحْصُلُ الْمُجَازَاةُ فِي الْآخِرَةِ، وَأَشَارَ فِيهِ إِلَى أَنَّ جَانِبَ الرَّحْمَةِ غَالِبٌ عَلَى جَانِبِ الْعِقَابِ فَقَالَ: مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها وَالْمُرَادُ بِالْمِثْلِ مَا يُقَابِلُهَا فِي الِاسْتِحْقَاقِ، فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَصِحُّ هَذَا الْكَلَامُ، مَعَ أَنَّ كُفْرَ سَاعَةٍ يُوجِبُ عِقَابَ الْأَبَدِ؟ قُلْنَا إِنَّ الْكَافِرَ يَعْتَقِدُ فِي كُفْرِهِ كَوْنَهُ طَاعَةً وَإِيمَانًا فَلِهَذَا السَّبَبِ يَكُونُ الْكَافِرُ عَلَى عَزْمٍ أَنْ يَبْقَى مُصِرًّا عَلَى ذَلِكَ الِاعْتِقَادِ أَبَدًا، فَلَا جَرَمَ كَانَ عِقَابُهُ مُؤَبَّدًا بِخِلَافِ الْفَاسِقِ فَإِنَّهُ يَعْتَقِدُ فِيهِ كَوْنَهُ خِيَانَةً وَمَعْصِيَةً فَيَكُونُ عَلَى عَزْمٍ أَنْ لَا يَبْقَى مُصِرًّا عَلَيْهِ، فَلَا جَرَمَ قُلْنَا أَنَّ عِقَابَ الْفَاسِقِ مُنْقَطِعٌ. أَمَّا الَّذِي يَقُولُهُ الْمُعْتَزِلَةُ مِنْ أَنَّ عِقَابَهُ مُؤَبَّدٌ فَهُوَ بَاطِلٌ، لِأَنَّ مُدَّةَ تِلْكَ الْمَعْصِيَةِ مُنْقَطِعَةٌ وَالْعَزْمُ عَلَى الْإِتْيَانِ بِهَا أَيْضًا لَيْسَ دَائِمًا بَلْ مُنْقَطِعًا فَمُقَابَلَتُهُ بِعِقَابٍ دَائِمٍ يَكُونُ عَلَى خِلَافِ قَوْلِهِ مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ أَصْلٌ كَبِيرٌ فِي عُلُومِ الشَّرِيعَةِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِأَحْكَامِ الْجِنَايَاتِ فَإِنَّهَا تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمِثْلُ مَشْرُوعًا، وَأَنْ يَكُونَ الزَّائِدُ عَلَى الْمِثْلِ غَيْرَ مَشْرُوعٍ، ثُمَّ نَقُولُ لَيْسَ فِي الْآيَةِ بَيَانُ أَنَّ تِلْكَ الْمُمَاثَلَةَ مُعْتَبَرَةٌ فِي أَيِّ الْأُمُورِ فَلَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى رِعَايَةِ الْمُمَاثَلَةِ فِي شَيْءٍ مُعَيَّنٍ، مَعَ أَنَّ ذَلِكَ الْمَعَيَّنَ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي الْآيَةِ صَارَتِ الْآيَةُ مُجْمَلَةً، وَلَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى رِعَايَةِ الْمُمَاثَلَةِ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ صَارَتِ الْآيَةُ عَامًّا مَخْصُوصًا، وَقَدْ ثَبَتَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ التَّعَارُضَ إِذَا وَقَعَ بَيْنَ الْإِجْمَالِ وَبَيْنَ التَّخْصِيصِ كَانَ دَفْعُ الْإِجْمَالِ أَوْلَى فَوَجَبَ أَنْ تُحْمَلَ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى رِعَايَةِ الْمُمَاثَلَةِ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ إِلَّا فِي مَوَاضِعِ التَّخْصِيصِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَالْأَحْكَامُ الْكَثِيرَةُ فِي بَابِ الْجِنَايَاتِ عَلَى النُّفُوسِ، وَعَلَى الْأَعْضَاءِ، وَعَلَى الْأَمْوَالِ يُمْكِنُ تَفْرِيعُهَا عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ.

ثُمَّ نَقُولُ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ جَزَاءَ السَّيِّئَةِ مَقْصُورٌ عَلَى الْمِثْلِ بَيَّنَ أَنَّ جَزَاءَ الْحَسَنَةِ غَيْرُ مَقْصُورٍ عَلَى الْمِثْلِ بَلْ هُوَ خَارِجٌ عَنِ الْحِسَابِ فَقَالَ: وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ فَقَالُوا قَوْلُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً نَكِرَةٌ فِي مَعْرِضِ الشَّرْطِ فِي جَانِبِ الْإِثْبَاتِ فَجَرَى مَجْرَى أَنْ يُقَالَ مَنْ ذَكَرَ كَلِمَةً أَوْ مَنْ خَطَا خَطْوَةً فَلَهُ كَذَا فَإِنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ مَنْ أَتَى بِتِلْكَ

<<  <  ج: ص:  >  >>