للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تَبْطُلُ، وَقَدْ تَتَبَدَّلُ بِالْفَقْرِ وَالذِّلَّةِ وَالْحَاجَةِ وَالْفُتُورِ، أَمَّا السَّلْطَنَةُ الْحَاصِلَةُ بِالْحُجَّةِ فَإِنَّهَا تَبْقَى أَبَدَ الْآبَادِ وَيَمْتَنِعُ تَطَرُّقُ الْخَلَلِ وَالْفُتُورِ إِلَيْهَا وَثَانِيهَا: أَنَّهُمْ مَنْصُورُونَ بِالْمَدْحِ وَالتَّعْظِيمِ، فَإِنَّ الظَّلَمَةَ وَإِنْ قَهَرُوا شَخْصًا مِنَ الْمُحِقِّينَ إِلَّا أَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى إِسْقَاطِ مَدْحِهِ عَنْ أَلْسِنَةِ النَّاسِ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُمْ مَنْصُورُونَ بِسَبَبِ أَنَّ بَوَاطِنَهُمْ مَمْلُوءَةٌ مِنْ أَنْوَارِ الْحُجَّةِ وَقُوَّةِ الْيَقِينِ، فَإِنَّهُمْ إِنَّمَا يَنْظُرُونَ إِلَى الظَّلَمَةِ وَالْجُهَّالِ كَمَا تَنْظُرُ مَلَائِكَةُ السموات إِلَى أَخَسِّ الْأَشْيَاءِ وَرَابِعُهَا: أَنَّ الْمُبْطِلِينَ وَإِنْ كَانَ يَتَّفِقُ لَهُمْ أَنْ يَحْصُلَ لَهُمُ اسْتِيلَاءٌ عَلَى الْمُحِقِّينَ، فَفِي الْغَالِبِ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَدُومُ بَلْ يُكْشَفُ لِلنَّاسِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ أَمْرًا وَقَعَ عَلَى خِلَافِ الْوَاجِبِ وَنَقِيضِ الْحَقِّ وَخَامِسُهَا: أَنَّ الْمُحِقَّ إِنِ اتَّفَقَ لَهُ أَنْ وَقَعَ فِي نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَحْذُورِ فَذَلِكَ يَكُونُ سَبَبًا لِمَزِيدِ ثَوَابِهِ وَتَعْظِيمِ دَرَجَاتِهِ وَسَادِسُهَا: أَنَّ الظَّلَمَةَ وَالْمُبْطِلِينَ كَمَا يَمُوتُونَ تَمُوتُ آثَارُهُمْ وَلَا يَبْقَى لَهُمْ فِي الدُّنْيَا أَثَرٌ وَلَا خَبَرٌ. وَأَمَّا الْمُحِقُّونَ فَإِنَّ آثَارَهُمْ بَاقِيَةٌ عَلَى وَجْهِ الدَّهْرِ وَالنَّاسُ بِهِمْ يَقْتَدُونَ فِي أَعْمَالِ البر والخير ولمحنهم يَتْرُكُونَ فَهَذَا كُلُّهُ أَنْوَاعُ نُصْرَةِ اللَّهِ لِلْمُحِقِّينَ فِي الدُّنْيَا وَسَابِعُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى قَدْ يَنْتَقِمُ لِلْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ بَعْدَ مَوْتِهِمْ، كَمَا نَصَرَ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا فَإِنَّهُ لَمَّا قُتِلَ قُتِلَ بِهِ سَبْعُونَ أَلْفًا، وَأَمَّا نُصْرَتُهُ تَعَالَى إِيَّاهُمْ فِي الْآخِرَةِ فَذَلِكَ بِإِعْلَاءِ دَرَجَاتِهِمْ فِي مَرَاتِبِ الثَّوَابِ وَكَوْنِهِمْ مُصَاحِبِينَ لِأَنْبِيَاءِ اللَّهِ، كَمَا قَالَ: فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً [النِّسَاءِ: ٦٩] .

وَاعْلَمْ أَنَّ فِي قَوْلِهِ إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا إِلَى قَوْلِهِ وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ دَقِيقَةً مُعْتَبَرَةً وَهِيَ أَنَّ السُّلْطَانَ الْعَظِيمَ إِذَا خَصَّ بَعْضَ خَوَاصِّهِ بِالْإِكْرَامِ الْعَظِيمِ وَالتَّشْرِيفِ الْكَامِلِ عِنْدَ حُضُورِ الْجَمْعِ الْعَظِيمِ مِنْ أَهْلِ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ كَانَ ذَلِكَ أَلَذَّ وَأَبْهَجَ فَقَوْلُهُ إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا- إِلَى- وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ الْمَقْصُودُ مِنْهُ هَذِهِ الدَّقِيقَةُ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِالْأَشْهَادِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ كُلُّ مَنْ يَشْهَدُ بِأَعْمَالِ الْعِبَادِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ مَلَكٍ وَنَبِيٍّ وَمُؤْمِنٍ، أَمَّا الْمَلَائِكَةُ فَهُمُ الْكِرَامُ الْكَاتِبُونَ يَشْهَدُونَ بِمَا شَاهَدُوا، وَأَمَّا الْأَنْبِيَاءُ فَقَالَ تَعَالَى: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً [النِّسَاءِ: ٤١] وَقَالَ تَعَالَى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً [الْبَقَرَةِ: ١٤٣] قَالَ الْمُبَرِّدُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَاحِدُ الْأَشْهَادِ شَاهِدًا كَأَطْيَارٍ وَطَائِرٍ وَأَصْحَابٍ وَصَاحِبٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَاحِدُ الْأَشْهَادِ شَهِيدًا كَأَشْرَافٍ وَشَرِيفٍ وَأَيْتَامٍ وَيَتِيمٍ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَابْنُ عَامِرٍ لَا تَنْفَعُ بِالتَّاءِ لِتَأْنِيثِ الْمَعْذِرَةِ وَالْبَاقُونَ بِالْيَاءِ كَأَنَّهُ أُرِيدَ الِاعْتِذَارُ.

وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ أَيْضًا مِنْ هَذَا شَرْحُ تَعْظِيمِ ثَوَابِ أَهْلِ الثَّوَابِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ يَنْصُرُهُمْ فِي يَوْمٍ يَجْتَمِعُ فِيهِ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ، فَحَالُهُمْ فِي عُلُوِّ الدَّرَجَاتِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مَا ذَكَرْنَاهُ وَأَمَّا حَالُ أَعْدَائِهِمْ فَهُوَ أَنَّهُ حَصَلَتْ لَهُمْ أُمُورٌ ثَلَاثَةٌ أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا يَنْفَعُهُمْ شَيْءٌ مِنَ الْمَعَاذِيرِ الْبَتَّةَ وَثَانِيهَا: أَنَّ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَهَذَا يُفِيدُ الْحَصْرَ يَعْنِي اللعنة مَقْصُورَةً عَلَيْهِمْ وَهِيَ الْإِهَانَةُ وَالْإِذْلَالُ وَثَالِثُهَا: سُوءُ الدار وَهُوَ الْعِقَابُ الشَّدِيدُ فَهَذَا الْيَوْمُ إِذَا كَانَ الْأَعْدَاءُ وَاقِعِينَ فِي هَذِهِ الْمَرَاتِبِ الثَّلَاثَةِ مِنَ الْوَحْشَةِ وَالْبَلِيَّةِ، ثُمَّ إِنَّهُ خَصَّ الْأَنْبِيَاءَ وَالْأَوْلِيَاءَ بِأَنْوَاعِ التَّشْرِيفَاتِ الْوَاقِعَةِ فِي الْجَمْعِ الْأَعْظَمِ فَهَهُنَا يَظْهَرُ أَنَّ سُرُورَ الْمُؤْمِنِ كَمْ يَكُونُ، وَأَنَّ غُمُومَ الْكَافِرِينَ إِلَى أَيْنَ تَبْلُغُ. فَإِنْ قِيلَ قَوْلُهُ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ يَذْكُرُونَ الْأَعْذَارَ إِلَّا أَنَّ تِلْكَ الْأَعْذَارَ لَا تَنْفَعُهُمْ فَكَيْفَ الْجَمْعُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ قَوْلِهِ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ [الْمُرْسَلَاتِ: ٣٦] قُلْنَا قَوْلُهُ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ

<<  <  ج: ص:  >  >>