للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

اعْلَمْ أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْكَلَامَ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ إِنَّمَا ابْتُدِئَ رَدًّا عَلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ، وَاتَّصَلَ الْبَعْضُ بِالْبَعْضِ وَامْتَدَّ عَلَى التَّرْتِيبِ الَّذِي لَخَّصْنَاهُ، وَالنَّسَقِ الَّذِي كَشَفْنَا عَنْهُ إِلَى هَذَا/ الْمَوْضِعِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى نَبَّهَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الدَّاعِيَةِ الَّتِي تَحْمِلُ أُولَئِكَ الْكُفَّارِ عَلَى تِلْكَ الْمُجَادَلَةِ، فَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ إِنَّمَا يَحْمِلُهُمْ عَلَى هَذَا الْجِدَالِ الْبَاطِلِ كِبْرٌ فِي صَدْرِهِمْ فَذَلِكَ الْكِبْرُ هُوَ الَّذِي يَحْمِلُهُمْ عَلَى هَذَا الْجِدَالِ الْبَاطِلِ، وَذَلِكَ الْكِبْرُ هُوَ أَنَّهُمْ لَوْ سَلَّمُوا نَبُوَّتَكَ لَزِمَهُمْ أَنْ يَكُونُوا تَحْتَ يَدِكَ وَأَمْرِكَ وَنَهْيِكَ، لِأَنَّ النبوّة تحتها كل ملك ورئاسة وَفِي صُدُورِهِمْ كِبْرٌ لَا يَرْضَوْنَ أَنْ يَكُونُوا فِي خِدْمَتِكَ، فَهَذَا هُوَ الَّذِي يَحْمِلُهُمْ عَلَى هَذِهِ الْمُجَادَلَاتِ الْبَاطِلَةِ وَالْمُخَاصِمَاتِ الْفَاسِدَةِ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: مَا هُمْ بِبالِغِيهِ يَعْنِي أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ أن لا يَكُونُوا تَحْتَ يَدِكَ وَلَا يَصِلُونَ إِلَى هَذَا الْمُرَادِ، بَلْ لَا بُدَّ وَأَنْ يَصِيرُوا تَحْتَ أَمْرِكَ وَنَهْيِكَ، ثُمَّ قَالَ: فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ أَيْ فَالْتَجِئْ إِلَيْهِ مِنْ كَيْدِ مَنْ يُجَادِلُكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ بِمَا يَقُولُونَ، أَوْ تَقُولُ الْبَصِيرُ بِمَا تَعْمَلُ وَيَعْمَلُونَ، فَهُوَ يَجْعَلُكَ نَافِذَ الْحُكْمِ عَلَيْهِمْ وَيَصُونُكَ عَنْ مَكْرِهِمْ وَكَيْدِهِمْ.

وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَصَفَ جِدَالَهُمْ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِأَنَّهُ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ وَلَا حُجَّةٍ ذَكَرَ لِهَذَا مِثَالًا، فَقَالَ لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَالْقَادِرُ عَلَى الْأَكْبَرِ قَادِرٌ عَلَى الْأَصْغَرِ لَا مَحَالَةَ، وَتَقْرِيرُ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِالشَّيْءِ عَلَى غَيْرِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ أَحَدُهَا: أَنْ يُقَالَ لَمَّا قَدَرَ عَلَى الْأَضْعَفِ وَجَبَ أَنْ يَقْدِرَ عَلَى الْأَقْوَى وَهَذَا فَاسِدٌ وَثَانِيهَا: أَنْ يُقَالَ لَمَّا قَدَرَ عَلَى الشَّيْءِ قدر على مثله، فهذا الاستدلال حَقٌّ لِمَا ثَبَتَ فِي الْعُقُولِ أَنَّ حُكْمَ الشَّيْءِ حُكْمُ مِثْلِهِ وَثَالِثُهَا: أَنْ يُقَالَ لَمَّا قَدَرَ عَلَى الْأَقْوَى الْأَكْمَلِ فَبِأَنْ يَقْدِرَ عَلَى الْأَقَلِّ الْأَرْذَلِ كَانَ أَوْلَى، وَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ وَالْقُوَّةِ وَلَا يَرْتَابُ فِيهِ عَاقِلٌ الْبَتَّةَ، ثُمَّ إِنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ يُسَلِّمُونَ أَنَّ خالق السموات وَالْأَرْضِ هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَيَعْلَمُونَ بِالضَّرُورَةِ أن خلق السموات وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَكَانَ مِنْ حَقِّهِمْ أَنْ يُقِرُّوا بِأَنَّ الْقَادِرَ عَلَى خَلْقِ السموات وَالْأَرْضِ يَكُونُ قَادِرًا عَلَى إِعَادَةِ الْإِنْسَانِ الَّذِي خَلَقَهُ أَوَّلًا، فَهَذَا بُرْهَانٌ جَلِيٌّ فِي إِفَادَةِ هَذَا الْمَطْلُوبِ، ثُمَّ إِنَّ هَذَا الْبُرْهَانَ عَلَى قُوَّتِهِ صَارَ بِحَيْثُ لَا يَعْرِفُهُ أَكْثَرُ النَّاسِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُمُ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ الْحَشْرَ وَالنَّشْرَ، فَظَهَرَ بِهَذَا الْمِثَالِ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ وَلَا حُجَّةٍ، بَلْ بِمُجَرَّدِ الْحَسَدِ وَالْجَهْلِ وَالْكِبْرِ وَالتَّعَصُّبِ، وَلَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْجِدَالَ الْمَقْرُونَ بِالْكِبْرِ وَالْحَسَدِ وَالْجَهْلِ كَيْفَ يَكُونُ، وَأَنَّ الْجِدَالَ الْمَقْرُونَ بِالْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ كَيْفَ يَكُونُ، نَبَّهَ تَعَالَى عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْبَابَيْنِ بِذِكْرِ الْمِثَالِ فَقَالَ: وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ يَعْنِي وَمَا يَسْتَوِي الْمُسْتَدِلُّ وَالْجَاهِلُ الْمُقَلِّدُ، ثُمَّ قَالَ: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلَا الْمُسِيءُ فَالْمُرَادُ بِالْأَوَّلِ التَّفَاوُتُ بَيْنَ الْعَالِمِ وَالْجَاهِلِ، وَالْمُرَادُ بِالثَّانِي التَّفَاوُتُ بَيْنَ الْآتِي بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَبَيْنَ الْآتِي بِالْأَعْمَالِ الْفَاسِدَةِ الْبَاطِلَةِ، ثُمَّ قَالَ: قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ يَعْنِي أَنَّهُمْ وَإِنْ

<<  <  ج: ص:  >  >>