للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَطْنَبَ فِي الْوَعِيدِ أَرْدَفَهُ بِهَذَا الْوَعْدِ الشَّرِيفِ، وَهَذَا تَرْتِيبٌ لَطِيفٌ مَدَارُ كُلِّ الْقُرْآنِ عَلَيْهِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا مِرَارًا أَنَّ الْكَمَالَاتِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ النَّفْسَانِيَّةُ وَالْبَدَنِيَّةُ وَالْخَارِجِيَّةُ وَأَشْرَفُ الْمَرَاتِبِ النَّفْسَانِيَّةُ وَأَوْسَطُهَا الْبَدَنِيَّةُ وَأَدْوَنُهَا الْخَارِجِيَّةُ، وَذَكَرْنَا أَنَّ الْكَمَالَاتِ النَّفْسَانِيَّةَ مَحْصُورَةٌ فِي نَوْعَيْنِ الْعِلْمُ الْيَقِينِيُّ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ، فَإِنَّ أَهْلَ التَّحْقِيقِ قَالُوا كَمَالُ الْإِنْسَانِ فِي أَنْ يَعْرِفَ الْحَقَّ لِذَاتِهِ وَالْخَيْرَ لِأَجْلِ الْعَمَلِ بِهِ وَرَأْسُ الْمَعَارِفِ الْيَقِينِيَّةُ وَرَئِيسُهَا مَعْرِفَةُ اللَّهِ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَرَأْسُ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَرَئِيسُهَا أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ مُسْتَقِيمًا فِي الْوَسَطِ غَيْرَ مَائِلٍ إِلَى طَرَفَيِ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ، كَمَا قَالَ: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [الْبَقَرَةِ: ١٤٣] وَقَالَ أَيْضًا: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ ثُمَّ اسْتَقامُوا وَسَمِعْتُ أَنَّ الْقَارِئَ قَرَأَ فِي مَجْلِسِ الْعَبَّادِيِّ هَذِهِ الْآيَةَ، فَقَالَ الْعَبَّادِيُّ: وَالْقِيَامَةُ فِي الْقِيَامَةِ، بِقَدْرِ الِاسْتِقَامَةِ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْقَوْلَ بِاللِّسَانِ فَقَطْ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُفِيدُ الِاسْتِقَامَةَ، فَلَمَّا ذَكَرَ عَقِيبَ ذَلِكَ الْقَوْلِ الِاسْتِقَامَةَ عَلِمْنَا أَنَّ ذَلِكَ الْقَوْلَ كَانَ مَقْرُونًا بِالْيَقِينِ التَّامِّ وَالْمَعْرِفَةِ الْحَقِيقِيَّةِ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ فِي الِاسْتِقَامَةِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الِاسْتِقَامَةُ فِي الدِّينِ وَالتَّوْحِيدِ وَالْمَعْرِفَةِ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الِاسْتِقَامَةُ فِي الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ أَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فَفِيهِ عِبَارَاتٌ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: ثُمَّ اسْتَقَامُوا أَيْ لَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَى إِلَهٍ غَيْرِهِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَذَلِكَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَعَ فِي أَنْوَاعٍ شَدِيدَةٍ مِنَ الْبَلَاءِ وَالْمِحْنَةِ وَلَمْ يَتَغَيَّرِ الْبَتَّةَ عَنْ دِينِهِ، فَكَانَ هُوَ الَّذِي قَالَ: رَبُّنَا اللَّهُ وَبَقِيَ مُسْتَقِيمًا عَلَيْهِ لَمْ يَتَغَيَّرْ بِسَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ، وَأَقُولُ يُمْكِنُ فِيهِ وُجُوهٌ أُخْرَى، وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ أَقَرَّ بِأَنَّ لِهَذَا الْعَالَمِ إِلَهًا بَقِيَتْ لَهُ مَقَامَاتٌ أُخْرَى فَأَوَّلُهَا:

/ أَنْ لا يتوغل في جانب النفي إلى حيث ينتهي إلى التعطيل، ولا يَتَوَغَّلَ فِي جَانِبِ الْإِثْبَاتِ إِلَى حَيْثُ يَنْتَهِي إِلَى التَّشْبِيهِ، بَلْ يَبْقَى عَلَى الْخَطِّ الْمُسْتَقِيمِ الْفَاصِلِ بَيْنَ التَّشْبِيهِ وَالتَّعْطِيلِ، وَأَيْضًا يَجِبُ أَنْ يَبْقَى عَلَى الْخَطِّ الْمُسْتَقِيمِ الْفَاصِلِ بَيْنَ الْجَبْرِ وَالْقَدَرِ، وَكَذَا فِي الرَّجَاءِ وَالْقُنُوطِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْخَطِّ الْمُسْتَقِيمِ، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي وَهُوَ أَنْ نَحْمِلَ الِاسْتِقَامَةَ عَلَى الْإِتْيَانِ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، فَهَذَا قَوْلُ جَمَاعَةٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، قَالُوا وَهَذَا أَوْلَى حَتَّى يَكُونَ قَوْلُهُ إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ مُتَنَاوِلًا لِلْقَوْلِ وَالِاعْتِقَادِ وَيَكُونَ قَوْلُهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا مُتَنَاوِلًا لِلْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ.

ثُمَّ قَالَ: تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ قِيلَ عِنْدَ الْمَوْتِ وَقِيلَ فِي مَوَاقِفَ ثَلَاثَةٍ عِنْدَ الْمَوْتِ وَفِي الْقَبْرِ وَعِنْدَ الْبَعْثِ إِلَى الْقِيَامَةِ أَلَّا تَخافُوا أَنْ بِمَعْنَى أَيْ أَوْ بِمُخَفَّفَةٍ مِنَ الثَّقِيلَةِ وَأَصْلُهُ بِأَنَّهُ لَا تَخَافُوا وَالْهَاءُ ضَمِيرٌ الشَّأْنِ وَاعْلَمْ أَنَّ الْغَايَةَ الْقُصْوَى فِي رِعَايَةِ الْمَصَالِحِ دَفْعُ الْمَضَارِّ وَجَلْبُ الْمَنَافِعِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ دَفْعَ الْمَضَرَّةِ أَوْلَى بِالرِّعَايَةِ مِنْ جَلْبِ الْمَصْلَحَةِ، وَالْمَضَرَّةُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ حَاصِلَةً فِي الْمُسْتَقْبَلِ أو في الحال أو في الماضي، وهاهنا دقيقة عقلية

<<  <  ج: ص:  >  >>