للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عَلَى ذَاتِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ، فَهَذِهِ تَنْبِيهَاتٌ شَرِيفَةٌ مُسْتَفَادَةٌ مِنْ تَنَاسُقِ هَذِهِ الْآيَاتِ، فَكَانَ الْعِلْمُ بِهَذِهِ اللَّطَائِفِ أَحْسَنَ عُلُومِ الْقُرْآنِ، وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّ الدَّلَائِلَ الدَّالَّةَ عَلَى هَذِهِ الْمَطَالِبِ الْعَالِيَةِ هِيَ الْعَالَمُ بِجَمِيعِ مَا فِيهِ مِنَ الْأَجْزَاءِ والأبعاض، فبدأ هاهنا بِذِكْرِ الْفَلَكِيَّاتِ وَهِيَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَإِنَّمَا قُدِّمَ ذِكْرُ اللَّيْلِ عَلَى ذِكْرِ النَّهَارِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الظُّلْمَةَ عَدَمٌ، وَالنُّورَ وُجُودٌ، وَالْعَدَمُ سَابِقٌ عَلَى الْوُجُودِ، فَهَذَا كَالتَّنْبِيهِ عَلَى حُدُوثِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَأَمَّا دَلَالَةُ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْأَفْلَاكِ وَسَائِرِ الْكَوَاكِبِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ، فَقَدْ شَرَحْنَاهَا فِي هَذَا الْكِتَابِ مِرَارًا، لَا سِيَّمَا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [الْفَاتِحَةِ: ٢] وَفِي تَفْسِيرِ قَوْلُهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [الْأَنْعَامِ: ١] .

وَلَمَّا بَيَّنَ أَنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ مُحْدَثَانِ، وَهُمَا دَلِيلَانِ عَلَى وُجُودِ الْإِلَهِ الْقَادِرِ قَالَ: لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ يَعْنِي أَنَّهُمَا عَبْدَانِ دَلِيلَانِ عَلَى وُجُودِ الْإِلَهِ، وَالسَّجْدَةُ عِبَارَةٌ عَنْ نِهَايَةِ التَّعْظِيمِ/ فَهِيَ لَا تَلِيقُ إِلَّا بِمَنْ كَانَ أَشْرَفَ الْمَوْجُودَاتِ، فَقَالَ: لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ لِأَنَّهُمَا عَبْدَانِ مَخْلُوقَانِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الْخَالِقِ الْقَادِرِ الْحَكِيمِ، وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ خَلَقَهُنَّ لِلَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْقَمَرِ، لِأَنَّ حُكْمَ جَمَاعَةِ مَا لَا يَعْقِلُ حُكْمُ الْأُنْثَى أَوِ الْإِنَاثِ، يُقَالُ لِلْأَقْلَامِ بَرَيْتُهَا وَبَرَيْتُهُنَّ، وَلَمَّا قَالَ: وَمِنْ آياتِهِ كُنَّ فِي مَعْنَى الْإِنَاثِ فَقَالَ: خَلَقَهُنَّ وَإِنَّمَا قَالَ: إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ لِأَنَّ نَاسًا كَانُوا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ وَالْقَمَرِ كَالصَّابِئِينَ فِي عِبَادَتِهِمُ الْكَوَاكِبَ وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَقْصِدُونَ بِالسُّجُودِ لَهُمَا السُّجُودَ لِلَّهِ فَنُهُوا عَنْ هَذِهِ الْوَاسِطَةِ وَأُمِرُوا أَنْ لَا يَسْجُدُوا إِلَّا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ الْأَشْيَاءَ، فَإِنْ قِيلَ إِذَا كَانَ لَا بُدَّ فِي الصَّلَاةِ مِنْ قِبْلَةٍ مُعَيَّنَةٍ، فَلَوْ جَعَلْنَا الشَّمْسَ قِبْلَةً مُعَيَّنَةً عِنْدَ السُّجُودِ كَانَ ذَلِكَ أَوْلَى، قُلْنَا الشَّمْسُ جَوْهَرٌ مُشْرِقٌ عَظِيمُ الرِّفْعَةِ عَالِي الدَّرَجَةِ، فَلَوْ أَذِنَ الشَّرْعُ فِي جَعْلِهَا قِبْلَةً فِي الصَّلَوَاتِ، فَعِنْدَ اعْتِيَادِ السُّجُودِ إِلَى جَانِبِ الشَّمْسِ رُبَّمَا غَلَبَ عَلَى الْأَوْهَامِ أَنَّ ذَلِكَ السُّجُودَ لِلشَّمْسِ لَا لِلَّهِ، فَلِأَجْلِ الْخَوْفِ مِنْ هَذَا الْمَحْذُورِ نَهَى الشَّارِعُ الْحَكِيمُ عَنْ جَعْلِ الشَّمْسِ قِبْلَةً لِلسُّجُودِ، بِخِلَافِ الْحَجَرِ الْمُعَيَّنِ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَا يُوهِمُ الْإِلَهِيَّةَ، فَكَانَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْقِبْلَةِ حَاصِلًا وَالْمَحْذُورُ الْمَذْكُورُ زَائِلًا فَكَانَ هَذَا أَوْلَى، وَاعْلَمْ أَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ مَوْضِعَ السُّجُودِ هُوَ قَوْلُهُ تَعْبُدُونَ لِأَجْلِ أَنَّ قَوْلَهُ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ مُتَّصِلٌ بِهِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ هُوَ قَوْلُهُ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ لِأَنَّ الْكَلَامَ إِنَّمَا يَتِمُّ عِنْدَهُ.

ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ بِالسُّجُودِ قَالَ بَعْدَهُ فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ وَفِيهِ سُؤَالَاتٌ:

السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: إِنَّ الَّذِينَ يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ وَالْقَمَرِ يَقُولُونَ نَحْنُ أَقَلُّ وَأَذَلُّ مِنْ أَنْ يَحْصُلَ لَنَا أَهْلِيَّةُ عُبُودِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَكِنَّا عَبِيدٌ لِلشَّمْسِ وَهُمَا عَبْدَانِ لِلَّهِ، وَإِذَا كَانَ قَوْلُ هَؤُلَاءِ هَكَذَا، فَكَيْفَ يَلِيقُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُمُ اسْتَكْبَرُوا عَنِ السُّجُودِ لِلَّهِ؟ وَالْجَوَابُ: لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ لَفْظِ الِاسْتِكْبَارِ مَا ذَكَرْتُمْ، بَلِ الْمُرَادُ فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا عَنْ قَبُولِ قَوْلِكَ يَا مُحَمَّدُ فِي النَّهْيِ عَنِ السُّجُودِ لِلشَّمْسِ وَالْقَمَرِ.

السُّؤَالُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُشَبِّهَةَ تَمَسَّكُوا بِقَوْلِهِ فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ فِي إِثْبَاتِ الْمَكَانِ وَالْجِهَةِ لِلَّهِ تَعَالَى وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ يُقَالُ عِنْدَ الْمَلِكِ مِنَ الْجُنْدِ كَذَا وَكَذَا، وَلَا يُرَادُ بِهِ قرب المكان. فكذا هاهنا. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ

قَوْلُهُ «أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي وَأَنَا عِنْدَ الْمُنْكَسِرَةِ قُلُوبُهُمْ لِأَجْلِي فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ»

وَيُقَالُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِنَّ الْمُسْلِمَ لَا يقتل بالذمي.

<<  <  ج: ص:  >  >>