للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَهُوَ جَامِعٌ لِنِعَمِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ، أَمَّا فِي الدُّنْيَا فَلِأَنَّهُ تَعَالَى أَزَالَ عَنْهُمُ الْحَاجَةَ الشَّدِيدَةَ إِلَى الْمَاءِ وَلَوْلَاهُ لَهَلَكُوا فِي التِّيهِ، كَمَا لَوْلَا إِنْزَالُهُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى لَهَلَكُوا، فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لَا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ [الْأَنْبِيَاءِ: ٨] وَقَالَ: وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ [الْأَنْبِيَاءِ: ٣٠] بَلِ الْإِنْعَامُ بِالْمَاءِ فِي التِّيهِ أَعْظَمُ مِنَ الْإِنْعَامِ بِالْمَاءِ الْمُعْتَادِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا اشْتَدَّتْ حَاجَتُهُ إِلَى الْمَاءِ فِي الْمَفَازَةِ وَقَدِ انْسَدَّتْ عَلَيْهِ أَبْوَابُ الرَّجَاءِ لِكَوْنِهِ فِي مَكَانٍ لَا مَاءَ فِيهِ وَلَا نَبَاتَ، فَإِذَا رَزَقَهُ اللَّهُ الْمَاءَ مِنْ حَجَرٍ ضُرِبَ بِالْعَصَا فَانْشَقَّ وَاسْتَقَى مِنْهُ عَلِمَ أَنَّ هَذِهِ النِّعْمَةَ لَا يَكَادُ يَعْدِلُهَا شَيْءٌ مِنَ النِّعَمِ، وَأَمَّا كَوْنُهُ مِنْ نِعَمِ الدِّينُ فَلِأَنَّهُ مِنْ أَظْهَرِ الدَّلَائِلِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ وَقُدْرَتِهِ وَعِلْمِهِ وَمِنْ أَصْدَقِ الدَّلَائِلِ عَلَى صِدْقِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهَاهُنَا مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ هَذَا الِاسْتِسْقَاءَ كَانَ فِي التِّيهِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا ظَلَّلَ عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى وَجَعَلَ ثِيَابَهُمْ بِحَيْثُ لَا تَبْلَى وَلَا تَتَّسِخُ خَافُوا/ الْعَطَشَ فَأَعْطَاهُمُ اللَّهُ الْمَاءَ مِنْ ذَلِكَ الْحَجَرِ، وَأَنْكَرَ أَبُو مُسْلِمٍ حَمْلَ هَذِهِ الْمُعْجِزَةِ عَلَى أَيَّامِ مَسِيرِهِمْ إِلَى التِّيهِ فَقَالَ: بَلْ هُوَ كَلَامٌ مُفْرَدٌ بِذَاتِهِ، وَمَعْنَى الِاسْتِسْقَاءِ طَلَبُ السُّقْيَا مِنَ الْمَطَرِ عَلَى عَادَةِ النَّاسِ إِذَا أَقْحَطُوا وَيَكُونُ مَا فَعَلَهُ اللَّهُ مِنْ تَفْجِيرِ الْحَجَرِ بِالْمَاءِ فَوْقَ الْإِجَابَةِ بِالسُّقْيَا وَإِنْزَالِ الْغَيْثِ وَالْحَقُّ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ هَذَا أَوْ ذَاكَ وَإِنْ كَانَ الْأَقْرَبُ أَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ فِي التِّيهِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُعْتَادَ فِي الْبِلَادِ الِاسْتِغْنَاءُ عَنْ طَلَبِ الْمَاءِ إِلَّا فِي النَّادِرِ، الثَّانِي: مَا رُوِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَحْمِلُونَ الْحَجَرَ مَعَ أَنْفُسِهِمْ لِأَنَّهُ صَارَ مُعَدًّا لِذَلِكَ فَكَمَا كَانَ الْمَنُّ وَالسَّلْوَى يَنْزِلَانِ عَلَيْهِمْ فِي كُلِّ غَدَاةٍ فَكَذَلِكَ الْمَاءُ يَنْفَجِرُ لَهُمْ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِأَيَّامِهِمْ فِي التِّيهِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي الْعَصَا، فَقَالَ الْحَسَنُ: كَانَتْ عَصًا أَخَذَهَا مِنْ بَعْضِ الْأَشْجَارِ، وَقِيلَ كَانَتْ مِنْ آسِ الْجَنَّةِ طُولُهَا عَشَرَةُ أَذْرُعٍ عَلَى طُولِ مُوسَى وَلَهَا شُعْبَتَانِ تَتَّقِدَانِ فِي الظُّلْمَةِ وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ أَنَّ مِقْدَارَهَا كَانَ مِقْدَارًا يَصِحُّ أَنْ يَتَوَكَّأَ عَلَيْهَا وَأَنْ تَنْقَلِبَ حَيَّةً عَظِيمَةً وَلَا تَكُونُ كَذَلِكَ إِلَّا وَلَهَا قَدْرٌ مِنَ الطُّولِ وَالْغِلَظِ وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَلَا دَلَالَةَ عَلَيْهِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ السُّكُوتَ عَنْ أَمْثَالِ هَذِهِ الْمَبَاحِثِ وَاجِبٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا نَصٌّ مُتَوَاتِرٌ قَاطِعٌ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهَا عَمَلٌ حَتَّى يَكْتَفِيَ فِيهَا بِالظَّنِّ الْمُسْتَفَادِ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ فَالْأَوْلَى تَرْكُهَا.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اللَّامُ فِي «الْحَجَرِ» إِمَّا لِلْعَهْدِ وَالْإِشَارَةِ إِلَى حَجَرٍ مَعْلُومٍ، فَرُوِيَ أَنَّهُ حَجَرٌ طُورِيٌّ حَمَلَهُ مَعَهُ وَكَانَ مُرَبَّعًا لَهُ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ يَنْبُعُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ثَلَاثَةُ أَعْيُنٍ لِكُلِّ سِبْطٍ عَيْنٌ تَسِيلُ فِي جَدْوَلٍ إِلَى ذَلِكَ السِّبْطِ، وَكَانُوا سِتَّمِائَةِ أَلْفٍ وَسَعَةُ الْمُعَسْكَرِ اثْنَا عَشَرَ مَيْلًا، وَقِيلَ أُهْبِطَ مَعَ آدَمَ مِنَ الْجَنَّةِ فَتَوَارَثُوهُ حَتَّى وَقَعَ إِلَى شُعَيْبَ فَدَفَعَهُ إِلَيْهِ مَعَ الْعَصَا، وَقِيلَ: هُوَ الْحَجَرُ الَّذِي وَضَعَ عَلَيْهِ ثَوْبَهُ حِينَ اغْتَسَلَ إِذْ رَمَوْهُ بِالْأُدْرَةِ فَفَرَّ بِهِ، فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: ارْفَعْ هَذَا الْحَجَرَ فَإِنَّ لِي فِيهِ قُدْرَةً وَلَكَ فِيهِ مُعْجِزَةٌ، فَحَمَلَهُ فِي مِخْلَاتِهِ، وَإِمَّا لِلْجِنْسِ أَيِ اضْرِبِ الشَّيْءَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ الْحَجَرُ، وَعَنِ الْحَسَنِ: لَمْ يَأْمُرُوهُ أَنْ يَضْرِبَ حَجَرًا بِعَيْنِهِ. قَالَ: وَهَذَا أَظْهَرُ فِي الْحُجَّةِ وَأَبْيَنُ فِي الْقُدْرَةِ، وَرُوِيَ أَنَّهُمْ قَالُوا: كَيْفَ بِنَا لَوْ أَفْضَيْنَا إِلَى أَرْضٍ لَيْسَتْ فِيهَا حِجَارَةٌ فَحَمَلَ حَجَرًا فِي مِخْلَاتِهِ فَحِينَمَا نَزَلُوا أَلْقَاهُ وَقِيلَ: كَانَ يَضْرِبُهُ بِعَصَاهُ فَيَنْفَجِرُ وَيَضْرِبُهُ بِهَا فَيَيْبَسُ، فَقَالُوا: إِنْ فَقَدَ مُوسَى عَصَاهُ مُتْنَا عَطَشًا.

فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ لَا تَقْرَعِ الْحِجَارَةَ، وَكَلِّمْهَا تُطِعْكَ، وَاخْتَلَفُوا فِي صِفَةِ الْحَجَرِ فَقِيلَ: كَانَ مِنْ رُخَامٍ وَكَانَ ذِرَاعًا فِي ذِرَاعٍ، وَقِيلَ: مِثْلُ رَأْسِ الْإِنْسَانِ. وَالْمُخْتَارُ عِنْدَنَا تَفْوِيضُ عِلْمِهِ إِلَى اللَّهِ تعالى.