للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ النَّوْعُ الرَّابِعُ: مِنَ كُفْرِيَّاتِهِمُ الَّتِي حَكَاهَا اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَهَؤُلَاءِ الْمَسَاكِينُ قَالُوا مَنْصِبُ رِسَالَةِ اللَّهِ مَنْصِبٌ شَرِيفٌ فَلَا يَلِيقُ إِلَّا بِرَجُلٍ شَرِيفٍ، وَقَدْ صَدَقُوا فِي ذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُمْ ضَمُّوا إِلَيْهِ مُقَدِّمَةً فَاسِدَةً وَهِيَ أَنَّ الرَّجُلَ الشَّرِيفَ هُوَ الَّذِي يَكُونُ كَثِيرَ الْمَالِ وَالْجَاهِ وَمُحَمَّدٌ لَيْسَ كَذَلِكَ فَلَا تَلِيقُ رِسَالَةُ اللَّهِ بِهِ، وَإِنَّمَا يَلِيقُ هَذَا الْمَنْصِبُ بِرَجُلٍ عَظِيمِ الْجَاهِ كَثِيرِ الْمَالِ فِي إِحْدَى الْقَرْيَتَيْنِ وَهِيَ مَكَّةُ وَالطَّائِفُ، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ وَالَّذِي بِمَكَّةَ هُوَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ وَالَّذِي بِالطَّائِفِ هُوَ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيُّ، ثُمَّ أَبْطَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الشُّبْهَةَ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ وَتَقْرِيرُ هَذَا الْجَوَابِ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّا أَوْقَعْنَا التَّفَاوُتَ فِي مَنَاصِبِ الدُّنْيَا وَلَمْ يَقْدِرْ أَحَدٌ مِنَ الْخَلْقِ عَلَى تَغْيِيرِهِ فَالتَّفَاوُتُ الَّذِي أَوْقَعْنَاهُ فِي مَنَاصِبِ الدِّينِ وَالنُّبُوَّةِ بِأَنْ لا يقدروا على التصريف فِيهِ كَانَ أَوْلَى وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ اخْتِصَاصَ ذَلِكَ الْغَنِيِّ بِذَلِكَ الْمَالِ الْكَثِيرِ إِنَّمَا كَانَ لِأَجْلِ حُكْمِنَا وَفَضْلِنَا وَإِحْسَانِنَا إِلَيْهِ، فَكَيْفَ يَلِيقُ بِالْعَقْلِ أَنْ نَجْعَلَ إِحْسَانَنَا إِلَيْهِ بِكَثْرَةِ الْمَالِ حُجَّةً عَلَيْنَا فِي أَنْ نُحْسِنَ إِلَيْهِ أَيْضًا بِالنُّبُوَّةِ؟ وَثَالِثُهَا: إِنَّا لَمَّا أَوْقَعْنَا التَّفَاوُتَ فِي الْإِحْسَانِ بِمَنَاصِبِ الدُّنْيَا لَا لِسَبَبٍ سَابِقٍ فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَيْضًا أَنْ نُوقِعَ التَّفَاوُتَ فِي الْإِحْسَانِ بِمَنَاصِبِ الدِّينِ وَالنُّبُوَّةِ لَا لِسَبَبٍ سَابِقٍ؟ فَهَذَا تَقْرِيرُ الْجَوَابِ، وَنَرْجِعُ إِلَى تَفْسِيرِ الْأَلْفَاظِ فَنَقُولُ الْهَمْزَةُ فِي قَوْلِهِ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ لِلْإِنْكَارِ الدَّالِّ عَلَى التَّجْهِيلِ وَالتَّعَجُّبِ مِنْ إِعْرَاضِهِمْ وَتَحَكُّمِهِمْ وَأَنْ يَكُونُوا هُمُ الْمُدَبِّرِينَ لِأَمْرِ النُّبُوَّةِ، ثُمَّ ضَرَبَ لِهَذَا مِثَالًا فَقَالَ: نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ وَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّا أَوْقَعْنَا هَذَا التَّفَاوُتَ بَيْنَ الْعِبَادِ فِي الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ وَالْعِلْمِ وَالْجَهْلِ وَالْحَذَاقَةِ وَالْبَلَاهَةِ وَالشُّهْرَةِ وَالْخُمُولِ، وَإِنَّمَا فَعَلْنَا ذَلِكَ لِأَنَّا لَوْ سَوَّيْنَا بَيْنَهُمْ فِي كُلِّ هَذِهِ الْأَحْوَالِ لَمْ يَخْدُمْ أَحَدٌ/ أَحَدًا وَلَمْ يَصِرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ مُسَخَّرًا لِغَيْرِهِ وَحِينَئِذٍ يُفْضِي ذَلِكَ إِلَى خَرَابِ الْعَالَمِ وَفَسَادِ نِظَامِ الدُّنْيَا، ثُمَّ إِنَّ أَحَدًا مِنَ الْخَلْقِ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى تَغْيِيرِ حُكْمِنَا وَلَا عَلَى الْخُرُوجِ عَنْ قَضَائِنَا، فَإِنْ عَجَزُوا عَنِ الْإِعْرَاضِ عَنْ حُكْمِنَا فِي أَحْوَالِ الدُّنْيَا مَعَ قِلَّتِهَا وَدَنَاءَتِهَا، فَكَيْفَ يُمْكِنُهُمُ الِاعْتِرَاضُ عَلَى حُكْمِنَا وَقَضَائِنَا فِي تَخْصِيصِ الْعِبَادِ بِمَنْصِبِ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ؟.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ كُلُّ أَقْسَامِ مَعَايِشِهِمْ إِنَّمَا تَحْصُلُ بِحُكْمِ اللَّهِ وَتَقْدِيرِهِ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الرِّزْقُ الْحَرَامُ وَالْحَلَالُ كُلُّهُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَالْوَجْهُ الثَّانِي: فِي الْجَوَابِ مَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قوله وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ؟، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا خَصَّ بَعْضَ عَبِيدِهِ بِنَوْعِ فَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ فِي الدِّينِ فَهَذِهِ الرَّحْمَةُ خَيْرٌ مِنَ الْأَمْوَالِ الَّتِي يَجْمَعُهَا لِأَنَّ الدُّنْيَا عَلَى شَرَفِ الِانْقِضَاءِ وَالِانْقِرَاضِ وَفَضْلُ اللَّهِ وَرَحْمَتُهُ تَبْقَى أَبَدَ الآباد.

[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٣٣ الى ٣٩]

وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ (٣٣) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ (٣٤) وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (٣٥) وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (٣٦) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (٣٧)

حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (٣٨) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٩)

<<  <  ج: ص:  >  >>