للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ فِي كَوْنِ الْقُرْآنِ. مُعْجِزًا، بِأَنْ قَالُوا إِنَّهُ يَخْتَلِقُهُ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ ثُمَّ يَنْسُبُهُ إِلَى أَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ عَلَى سَبِيلِ الْفِرْيَةِ، حَكَى عَنْهُمْ نَوْعًا آخَرَ مِنَ الشُّبُهَاتِ، وَهُوَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقْتَرِحُونَ مِنْهُ مُعْجِزَاتٍ عَجِيبَةً قَاهِرَةً، وَيُطَالِبُونَهُ بِأَنْ يُخْبِرَهُمْ عَنِ الْمُغَيَّبَاتِ، فَأَجَابَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ بِأَنْ قَالَ: قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَالْبِدْعُ وَالْبَدِيعُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ الْمَبْدَأُ وَالْبِدْعَةُ مَا اخْتُرِعَ مِمَّا لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا قَبْلَهُ بِحُكْمِ السُّنَّةِ، وَفِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ أَيْ مَا كُنْتُ أَوَّلَهُمْ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ تُنْكِرُوا إِخْبَارِي بِأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ، وَلَا تُنْكِرُوا دُعَائِي لَكُمْ إِلَى التَّوْحِيدِ، وَنَهْيِي عَنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، فَإِنَّ كُلَّ الرُّسُلِ إِنَّمَا بُعِثُوا بِهَذَا الطَّرِيقِ الْوَجْهُ الثَّانِي:

أَنَّهُمْ طَلَبُوا مِنْهُ مُعْجِزَاتٍ عَظِيمَةً وَإِخْبَارًا عَنِ الْغُيُوبِ فَقَالَ: قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَالْمَعْنَى أَنَّ الْإِتْيَانَ بِهَذِهِ الْمُعْجِزَاتِ الْقَاهِرَةِ وَالْإِخْبَارَ عَنْ هَذِهِ الْغُيُوبِ لَيْسَ فِي وُسْعِ الْبَشَرِ، وَأَنَا مِنْ جِنْسِ الرُّسُلِ وَأَحَدٌ مِنْهُمْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى مَا تُرِيدُونَهُ فَكَيْفَ أَقْدِرُ عَلَيْهِ؟ الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُمْ كَانُوا يَعِيبُونَهُ أَنَّهُ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ وَبِأَنَّ أَتْبَاعَهُ فُقَرَاءُ فَقَالَ: قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَكُلُّهُمْ كَانُوا عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ وَبِهَذِهِ الْمَثَابَةِ فَهَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَا تَقْدَحُ فِي نُبُوَّتِي كَمَا لَا تَقْدَحُ فِي نُبُوَّتِهِمْ.

ثُمَّ قَالَ: وَما أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ وَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يُحْمَلَ ذَلِكَ عَلَى أَحْوَالِ الدُّنْيَا وَالثَّانِي: أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَحْوَالِ الْآخِرَةِ أَمَّا الْأَوَّلُ: فَفِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: لَا أَدْرِي مَا يَصِيرُ إِلَيْهِ أَمْرِي وَأَمْرُكُمْ، وَمَنِ الْغَالِبُ مِنَّا وَالْمَغْلُوبُ وَالثَّانِي:

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ الْكَلْبِيِّ: لَمَّا اشْتَدَّ الْبَلَاءُ بِأَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ رَأَى فِي الْمَنَامِ أَنَّهُ يُهَاجِرُ إِلَى أَرْضٍ ذَاتِ نَخْلٍ وَشَجَرٍ وَمَاءٍ، فَقَصَّهَا عَلَى أَصْحَابِهِ فَاسْتَبْشَرُوا بِذَلِكَ وَرَأَوْا أَنَّ ذَلِكَ فَرَجٌ مِمَّا هُمْ فِيهِ مِنْ أَذَى الْمُشْرِكِينَ، ثُمَّ إِنَّهُمْ مَكَثُوا بُرْهَةً مِنَ الدَّهْرِ لَا يَرَوْنَ أَثَرَ ذَلِكَ،، فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا رَأَيْنَا الَّذِي قُلْتَ وَمَتَى نُهَاجِرُ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي رَأَيْتَهَا فِي الْمَنَامِ؟ فَسَكَتَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: ما أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ وَهُوَ شَيْءٌ رَأَيْتُهُ فِي الْمَنَامِ، وَأَنَا لَا أَتَّبِعُ إِلَّا مَا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ

الثَّالِثُ: قَالَ الضَّحَّاكُ لَا أَدْرِي مَا تُؤْمَرُونَ بِهِ وَلَا أُؤْمَرُ بِهِ فِي بَابِ التَّكَالِيفِ وَالشَّرَائِعِ وَالْجِهَادِ وَلَا فِي الِابْتِلَاءِ وَالِامْتِحَانِ وَإِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِمَا أَعْلَمَنِي اللَّهُ بِهِ مِنْ أَحْوَالِ الْآخِرَةِ فِي الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَالرَّابِعُ: الْمُرَادُ أَنَّهُ يَقُولُ لَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي فِي الدُّنْيَا أَأُمُوتُ أَمْ أُقْتَلُ كَمَا قُتِلَ الْأَنْبِيَاءُ قَبْلِي وَلَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِكُمْ أَيُّهَا الْمُكَذِّبُونَ، أَتُرْمَوْنَ بِالْحِجَارَةِ مِنَ السَّمَاءِ، أَمْ يُخْسَفُ بِكُمْ أَمْ يُفْعَلُ بِكُمْ مَا فُعِلَ بِسَائِرِ الْأُمَمِ، أَمَّا الَّذِينَ حَمَلُوا هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى أَحْوَالِ الْآخِرَةِ، فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فَرِحَ الْمُشْرِكُونَ وَالْمُنَافِقُونَ وَالْيَهُودُ وَقَالُوا كَيْفَ نَتَّبِعُ نَبِيًّا لَا يَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِهِ وَبِنَا؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ إِلَى قَوْلِهِ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً [الْفَتْحِ: ١- ٥] فَبَيَّنَ تَعَالَى مَا يُفْعَلُ بِهِ وَبِمَنِ اتَّبَعَهُ وَنُسِخَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَأَرْغَمَ اللَّهُ أَنْفَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُشْرِكِينَ.

وَأَكْثَرُ الْمُحَقِّقِينَ اسْتَبْعَدُوا هَذَا الْقَوْلَ وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِوُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَعْلَمَ مِنْ نَفْسِهِ كَوْنَهُ نَبِيًّا وَمَتَّى عَلِمَ كَوْنَهُ نَبِيًّا عَلِمَ أَنَّهُ لَا تَصْدُرُ عَنْهُ الْكَبَائِرُ وَأَنَّهُ مَغْفُورٌ لَهُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ امْتَنَعَ كَوْنُهُ شَاكًّا فِي أَنَّهُ هَلْ هُوَ مَغْفُورٌ لَهُ أَمْ لَا الثَّانِي: لَا شَكَّ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ أَرْفَعُ حَالًا مِنَ الْأَوْلِيَاءِ، فَلَمَّا قَالَ فِي هَذَا إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ

<<  <  ج: ص:  >  >>