للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تَتْرُكُونَ الْقِتَالَ وَتَقُولُونَ فِيهِ الْإِفْسَادُ وَقَطْعُ الْأَرْحَامِ لِكَوْنِ الْكُفَّارِ أَقَارِبَنَا فَلَا يَقَعُ مِنْكُمْ إِلَّا ذَلِكَ حَيْثُ تُقَاتِلُونَ عَلَى أَدْنَى شَيْءٍ كَمَا كَانَ عَادَةُ الْعَرَبِ الْأَوَّلُ: يُؤَكِّدُهُ

قِرَاءَةُ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ تُوُلِّيتُمْ،

أَيْ إِنْ تَوَلَّاكُمْ وُلَاةٌ ظَلَمَةٌ جُفَاةٌ غُشَمَةٌ وَمَشَيْتُمْ تَحْتَ لِوَائِهِمْ وَأَفْسَدْتُمْ بإفسادهم معهم وَقَطَّعْتُمْ أَرْحَامَكُمْ، وَالنَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا يَأْمُرُكُمْ إِلَّا بِالْإِصْلَاحِ وَصِلَةِ الْأَرْحَامِ، فَلِمَ تَتَقَاعَدُونَ عَنِ القتال وتتباعدون في الضلال ثم قال تعالى:

[[سورة محمد (٤٧) : آية ٢٣]]

أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ (٢٣)

إِشَارَةٌ لِمَنْ سَبَقَ ذِكْرُهُمْ مِنَ الْمُنَافِقِينَ أَبْعَدَهُمُ اللَّهُ عَنْهُ أَوْ عَنِ الْخَيْرِ فَأَصَمَّهُمْ فَلَا يَسْمَعُونَ الْكَلَامَ الْمُسْتَبِينَ وَأَعْمَاهُمْ فَلَا يَتَّبِعُونَ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، وَفِيهِ تَرْتِيبٌ حَسَنٌ، وَذَلِكَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُمُ اسْتَمَعُوا الْكَلَامَ الْعِلْمِيَّ وَلَمْ يَفْهَمُوهُ فَهُمْ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ صُمٌّ أَصَمَّهُمُ اللَّهُ وَعِنْدَ الْأَمْرِ بِالْعَمَلِ تَرَكُوهُ وَعَلَّلُوا بِكَوْنِهِ إِفْسَادًا وَقَطْعًا لِلرَّحِمِ وَهُمْ كَانُوا يَتَعَاطَوْنَهُ عِنْدَ النَّهْيِ عَنْهُ فَلَمْ يَرَوْا حَالَهُمْ عَلَيْهِ وَتَرَكُوا اتِّبَاعَ النَّبِيِّ الَّذِي يَأْمُرُهُمْ بِالْإِصْلَاحِ وَصِلَةِ الْأَرْحَامِ وَلَوْ دَعَاهُمْ مَنْ يَأْمُرُ بِالْإِفْسَادِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ لَاتَّبَعُوهُ فَهُمْ عُمْيٌ أَعْمَاهُمُ اللَّهُ، وَفِيهِ لَطِيفَةٌ: وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ أَصَمَّهُمْ وَلَمْ يَقُلْ أَصَمَّ آذَانَهُمْ، وَقَالَ: وَأَعْمى / أَبْصارَهُمْ وَلَمْ يَقُلْ أَعْمَاهُمْ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَيْنَ آلَةُ الرُّؤْيَةِ وَلَوْ أَصَابَهَا آفَةٌ لَا يَحْصُلُ الْإِبْصَارُ وَالْأُذُنُ لَوْ أَصَابَهَا آفَةٌ مِنْ قَطْعٍ أَوْ قَلْعٍ تَسْمَعُ الْكَلَامَ، لِأَنَّ الْأُذُنَ خُلِقَتْ وَخُلِقَ فِيهَا تَعَارِيجٌ لِيَكْثُرَ فِيهَا الْهَوَاءُ الْمُتَمَوِّجُ وَلَا يَقْرَعُ الصِّمَاخَ بِعُنْفٍ فَيُؤْذِي كما يؤذي الصوت القوي فقال: فَأَصَمَّهُمْ من غير ذكر الأذن، وقال: أَعْمى أَبْصارَهُمْ مع ذكر العين لأن البصر هاهنا بِمَعْنَى الْعَيْنِ، وَلِهَذَا جَمَعَهُ بِالْأَبْصَارِ، وَلَوْ كَانَ مَصْدَرًا لَمَا جُمِعَ فَلَمْ يَذْكُرِ الْأُذُنَ إِذْ لَا مَدْخَلَ لَهَا فِي الْإِصْمَامِ، وَالْعَيْنُ لَهَا مَدْخَلٌ فِي الرُّؤْيَةِ بَلْ هِيَ الْكُلُّ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ الْآفَةَ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ لَمَّا أَضَافَهَا إِلَى الْأُذُنِ سَمَّاهَا وَقْرًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَفِي آذانِنا وَقْرٌ [فُصِّلَتْ: ٥] وَقَالَ: كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً [لُقْمَانَ: ٧] وَالْوَقْرُ دُونَ الصم وكذلك الطرش ثم قال تعالى:

[[سورة محمد (٤٧) : آية ٢٤]]

أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (٢٤)

وَلْنَذْكُرَ تَفْسِيرَهَا فِي مَسَائِلَ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لَمَّا قال الله تعالى: فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ [محمد: ٢٣] كَيْفَ يُمْكِنُهُمُ التَّدَبُّرُ فِي الْقُرْآنِ قَالَ تَعَالَى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ وَهُوَ كَقَوْلِ الْقَائِلِ لِلْأَعْمَى أَبْصِرْ وَلِلْأَصَمِّ اسْمَعْ؟ فَنَقُولُ الْجَوَابُ: عَنْهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ مُتَرَتِّبَةٍ بَعْضُهَا أَحْسَنُ مِنَ الْبَعْضِ الْأَوَّلُ: تَكْلِيفُهُ مَا لَا يُطَاقُ جَائِزٌ وَاللَّهُ أَمَرَ مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ بِأَنْ يُؤْمِنَ، فَكَذَلِكَ جَازَ أَنْ يُعْمِيَهُمْ وَيَذُمَّهُمْ عَلَى تَرْكِ التَّدَبُّرِ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ النَّاسُ الثَّالِثُ: أَنْ نَقُولَ هَذِهِ الْآيَةُ وَرَدَتْ مُحَقِّقَةً لِمَعْنَى الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى قال: أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ [محمد: ٢٣] أَيْ أَبْعَدَهُمْ عَنْهُ أَوْ عَنِ الصِّدْقِ أَوْ عَنِ الْخَيْرِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الْحَسَنَةِ فَأَصَمَّهُمْ لَا يَسْمَعُونَ حَقِيقَةَ الْكَلَامِ وَأَعْمَاهُمْ لَا يَتَّبِعُونَ طَرِيقَ الْإِسْلَامِ فَإِذَنْ هُمْ بَيْنَ أَمْرَيْنِ، إِمَّا لَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ فَيَبْعُدُونَ مِنْهُ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَعَنَهُمْ وَأَبْعَدَهُمْ عَنِ الْخَيْرِ وَالصِّدْقِ، وَالْقُرْآنُ مِنْهُمَا الصِّنْفُ الْأَعْلَى بَلِ النَّوْعُ الْأَشْرَفُ، وَإِمَّا يَتَدَبَّرُونَ لَكِنْ لَا تَدْخُلُ مَعَانِيهِ فِي قُلُوبِهِمْ لِكَوْنِهَا مُقْفَلَةً، تَقْدِيرُهُ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ القرآن لكونهم ملعونين معبودين، أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالٌ فَيَتَدَبَّرُونَ وَلَا يَفْهَمُونَ، وَعَلَى هَذَا لَا نَحْتَاجُ أَنْ نَقُولَ أَمْ بِمَعْنَى بَلْ، بَلْ هِيَ عَلَى حَقِيقَتِهَا

<<  <  ج: ص:  >  >>