للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قَالَ: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ وَيَهْدِيَكَ وَيَنْصُرَكَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الِاجْتِمَاعَ لَمْ يَثْبُتْ إِلَّا بِالْفَتْحِ، فَإِنَّ النِّعْمَةَ بِهِ تَمَّتْ، وَالنُّصْرَةَ بَعْدَهُ قَدْ عَمَّتْ الثَّانِي: هُوَ أَنَّ فَتْحَ مَكَّةَ كَانَ سَبَبًا لِتَطْهِيرِ بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ رِجْسِ الْأَوْثَانِ، وَتَطْهِيرُ بَيْتِهِ صَارَ سَبَبًا لِتَطْهِيرِ عَبْدِهِ الثَّالِثُ: هُوَ أَنَّ بِالْفَتْحِ يَحْصُلُ الْحَجُّ، ثُمَّ بِالْحَجِّ تَحْصُلُ الْمَغْفِرَةُ، أَلَا تَرَى إِلَى دُعَاءِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَيْثُ

قَالَ فِي الْحَجِّ: «اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ حَجًّا مَبْرُورًا، وَسَعْيًا مَشْكُورًا، وَذَنْبًا مَغْفُورًا»

الرَّابِعُ: الْمُرَادُ مِنْهُ التَّعْرِيفُ تَقْدِيرُهُ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ لِيُعْرَفَ أَنَّكَ مَغْفُورٌ، مَعْصُومٌ، فَإِنَّ النَّاسَ كَانُوا عَلِمُوا بَعْدَ عَامِ الْفِيلِ أَنَّ مَكَّةَ لَا يَأْخُذُهَا عَدُوُّ اللَّهِ الْمَسْخُوطُ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَدْخُلُهَا وَيَأْخُذُهَا حَبِيبُ اللَّهِ الْمَغْفُورُ لَهُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لَمْ يَكُنْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَنْبٌ، فَمَاذَا يُغْفَرُ لَهُ؟ قُلْنَا الْجَوَابُ: عَنْهُ قَدْ تَقَدَّمَ مِرَارًا مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا:

الْمُرَادُ ذَنْبُ الْمُؤْمِنِينَ ثَانِيهَا: الْمُرَادُ تَرْكُ الْأَفْضَلِ ثَالِثُهَا: الصَّغَائِرُ فَإِنَّهَا جَائِزَةٌ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ بِالسَّهْوِ وَالْعَمْدِ، وَهُوَ يَصُونُهُمْ عَنِ الْعَجَبِ رَابِعُهَا: الْمُرَادُ الْعِصْمَةُ، وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَهُ فِي سُورَةِ الْقِتَالِ.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مَا مَعْنَى قَوْلِهِ وَما تَأَخَّرَ؟ نَقُولُ فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّهُ وَعَدَ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَنَّهُ لَا يُذْنِبُ بَعْدَ النُّبُوَّةِ ثَانِيهَا: مَا تَقَدَّمَ عَلَى الْفَتْحِ، وَمَا تَأَخَّرَ عَنِ الْفَتْحِ ثَالِثُهَا: الْعُمُومُ يُقَالُ اضْرِبْ مَنْ لَقِيتَ وَمَنْ لَا تَلْقَاهُ، مَعَ أَنَّ مَنْ لَا يَلْقَى لَا يُمْكِنُ ضَرْبُهُ إِشَارَةً إِلَى الْعُمُومِ رَابِعُهَا: مِنْ قَبْلِ النُّبُوَّةِ وَمِنْ بَعْدِهَا، وَعَلَى هَذَا فَمَا قَبْلَ النُّبُوَّةِ بِالْعَفْوِ وَمَا بَعْدَهَا بِالْعِصْمَةِ، وَفِيهِ وُجُوهٌ أُخَرُ سَاقِطَةٌ، مِنْهَا قَوْلُ بَعْضِهِمْ: مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَمْرِ مَارِيَةَ، وَمَا تَأَخَّرَ مِنْ أَمْرِ زَيْنَبَ، وَهُوَ أَبْعَدُ الْوُجُوهِ وَأَسْقَطُهَا لِعَدَمِ الْتِئَامِ الْكَلَامِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: هُوَ أَنَّ التَّكَالِيفَ عِنْدَ الْفَتْحِ تَمَّتْ حَيْثُ وَجَبَ الْحَجُّ، وَهُوَ آخِرُ التَّكَالِيفِ، وَالتَّكَالِيفُ نِعَمٌ ثَانِيهَا: يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ بِإِخْلَاءِ الْأَرْضِ لَكَ عَنْ مُعَانِدِيكَ، فَإِنَّ يَوْمَ الْفَتْحِ لَمْ يَبْقَ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَدُوٌّ ذُو اعْتِبَارٍ، فَإِنَّ بَعْضَهُمْ كَانُوا أُهْلِكُوا يَوْمَ بَدْرٍ وَالْبَاقُونَ آمَنُوا وَاسْتَأْمَنُوا يَوْمَ الْفَتْحِ ثَالِثُهَا: وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا بِاسْتِجَابَةِ دعائك في طلب الفتح، وفي الآخرة بقبول شَفَاعَتِكَ فِي الذُّنُوبِ وَلَوْ كَانَتْ فِي غَايَةِ الْقُبْحِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً يَحْتَمِلُ وُجُوهًا أَظْهَرُهَا: يُدِيمُكَ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ حَتَّى لَا يَبْقَى مَنْ يَلْتَفِتُ إِلَى قَوْلِهِ مِنَ الْمُضِلِّينَ، أَوْ مِمَّنْ يَقْدِرُ عَلَى الْإِكْرَاهِ عَلَى الْكُفْرِ، وَهَذَا يُوَافِقُ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً [الْمَائِدَةِ: ٣] حَيْثُ أَهْلَكْتُ الْمُجَادِلِينَ فِيهِ، وَحَمَلْتُهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ وَثَانِيهَا: أَنْ يُقَالَ جَعَلَ الْفَتْحَ سَبَبًا لِلْهِدَايَةِ إِلَى/ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، لِأَنَّهُ سَهَّلَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الْجِهَادَ لِعِلْمِهِمْ بِالْفَوَائِدِ الْعَاجِلَةِ بِالْفَتْحِ وَالْآجِلَةِ بِالْوَعْدِ، وَالْجِهَادُ سُلُوكُ سَبِيلِ اللَّهِ، ولهذا يقال للغازي في سبيل الله مجاهدو ثالثها: مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُرَادَ التَّعْرِيفُ، أَيْ لِيُعْرَفَ أَنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْفَتْحَ لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى يَدِ مَنْ يَكُونُ عَلَى صِرَاطِ اللَّهِ بِدَلِيلِ حِكَايَةِ الْفِيلِ، وَقَوْلُهُ وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً ظَاهِرٌ، لِأَنَّ بِالْفَتْحِ ظَهَرَ النَّصْرُ وَاشْتَهَرَ الْأَمْرُ، وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ إِحْدَاهُمَا لَفْظِيَّةٌ وَالْأُخْرَى مَعْنَوِيَّةٌ:

أَمَّا الْمَسْأَلَةُ اللَّفْظِيَّةُ: فَهِيَ أَنَّ اللَّهَ وَصَفَ النَّصْرَ بِكَوْنِهِ عَزِيزًا، وَالْعَزِيزُ مَنْ لَهُ النَّصْرُ وَالْجَوَابُ: مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: مَا قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنَّهُ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا ثَلَاثَةً الْأَوَّلُ: مَعْنَاهُ نُصِرَ إِذْ عَزَّ، كَقَوْلِهِ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ [الْحَاقَّةِ: ٢١] أَيْ ذَاتُ رِضًى الثَّانِي: وَصْفُ النَّصْرِ بِمَا يُوصَفُ بِهِ الْمَنْصُورُ إِسْنَادًا مَجَازِيًّا يُقَالُ لَهُ كَلَامٌ صَادِقٌ، كَمَا يقال له متكلم صادق الثالث: المراد نصرا عَزِيزًا صَاحِبُهُ الْوَجْهُ الثَّانِي مِنَ الْجَوَابِ أَنْ نَقُولَ: إِنَّمَا يَلْزَمُنَا مَا ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنَ التَّقْدِيرَاتِ إِذَا قُلْنَا: الْعِزَّةُ مِنَ الْغَلَبَةِ، وَالْعَزِيزُ الْغَالِبُ وَأَمَّا إِذَا قُلْنَا: الْعَزِيزُ هُوَ النَّفِيسُ القليل

<<  <  ج: ص:  >  >>