للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

إِثَارَةُ الْفِتْنَةِ وَإِرَادَةُ الْإِضْلَالِ. قُلْنَا: أَمَّا عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ فَإِرَادَةُ الْإِضْلَالِ جَائِزَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ فَالتَّشْدِيدُ فِي التَّكَالِيفِ حَسَنٌ لِغَرَضِ ازْدِيَادِ الثَّوَابِ.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ فَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ: (قِرَدَةً خاسِئِينَ) خَبَرٌ: أَيْ كُونُوا جَامِعِينَ بَيْنَ الْقِرْدِيَّةِ وَالْخُسُوءِ، وَهُوَ الصَّغَارُ وَالطَّرْدُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ لَيْسَ بِأَمْرٍ لِأَنَّهُمْ مَا كَانُوا قَادِرِينَ عَلَى أَنْ يَقْلِبُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى صُورَةِ الْقِرَدَةِ بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ سُرْعَةُ التَّكْوِينِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النَّحْلِ: ٤] وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ [فُصِّلَتْ: ١١] وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يُعْجِزْهُ مَا أَرَادَ إِنْزَالَهُ مِنَ الْعُقُوبَةِ بِهَؤُلَاءِ بَلْ لَمَّا قَالَ لَهُمْ، كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ صَارُوا كَذَلِكَ أَيْ لَمَّا أَرَادَ/ ذَلِكَ بِهِمْ صَارُوا كَمَا أَرَادَ وَهُوَ كَقَوْلِهِ: كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا [النِّسَاءِ: ٤٧] وَلَا يَمْتَنِعُ أَيْضًا أَنَّ يَتَكَلَّمَ اللَّهُ بِذَلِكَ عِنْدَ هَذَا التَّكْوِينِ إِلَّا أَنَّ الْمُؤَثِّرَ فِي هَذَا التَّكْوِينِ هُوَ الْقُدْرَةُ وَالْإِرَادَةُ. فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا لَمْ يَكُنْ لِهَذَا الْقَوْلِ أَثَرٌ فِي التَّكْوِينِ فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِيهِ؟ قُلْنَا: أَمَّا عِنْدُنَا فَأَحْكَامُ اللَّهِ تَعَالَى وَأَفْعَالُهُ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى رِعَايَةِ الْمَصَالِحِ الْبَتَّةَ، وَأَمَّا عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ فَلَعَلَّ هَذَا الْقَوْلَ يَكُونُ لَفْظًا لِبَعْضِ الْمَلَائِكَةِ أَوْ لِغَيْرِهِمْ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْمَرْوِيُّ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَسَخَ قُلُوبَهُمْ بِمَعْنَى الطَّبْعِ وَالْخَتْمِ لَا أَنَّهُ مَسَخَ صُوَرَهُمْ وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً [الْجُمُعَةِ: ٥] وَنَظِيرُهُ أَنْ يَقُولَ الْأُسْتَاذُ للمتعلم البليد الذي لا ينجح في تَعْلِيمُهُ: كُنْ حِمَارًا. وَاحْتُجَّ عَلَى امْتِنَاعِهِ بِأَمْرَيْنِ. الْأَوَّلُ: أَنَّ الْإِنْسَانَ هُوَ هَذَا الْهَيْكَلُ الْمُشَاهَدُ وَالْبِنْيَةُ الْمَحْسُوسَةُ فَإِذَا أَبْطَلَهَا وَخَلَقَ فِي تِلْكَ الْأَجْسَامِ تَرْكِيبَ الْقِرْدِ وَشَكْلَهُ كَانَ ذَلِكَ إِعْدَامًا لِلْإِنْسَانِ وَإِيجَادًا لِلْقِرْدِ فَيَرْجِعُ حَاصِلُ الْمَسْخِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ إِلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَعْدَمَ الْأَعْرَاضَ الَّتِي بِاعْتِبَارِهَا كَانَتْ تِلْكَ الْأَجْسَامُ إِنْسَانًا وَخَلَقَ فِيهَا الْأَعْرَاضَ الَّتِي بِاعْتِبَارِهَا كَانَتْ قِرْدًا فَهَذَا يَكُونُ إِعْدَامًا وَإِيجَادًا لَا أَنَّهُ يَكُونُ مَسْخًا.

وَالثَّانِي: إِنْ جَوَّزْنَا ذَلِكَ لَمَا أَمِنَّا فِي كُلِّ مَا نَرَاهُ قِرْدًا وَكَلْبًا أَنَّهُ كَانَ إِنْسَانًا عَاقِلًا، وَذَلِكَ يُفْضِي إِلَى الشَّكِّ فِي الْمُشَاهَدَاتِ. وَأُجِيبَ عَنِ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَيْسَ هُوَ تَمَامَ هَذَا الْهَيْكَلِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا الْإِنْسَانَ قَدْ يَصِيرُ سَمِينًا بَعْدَ أَنْ كَانَ هَزِيلًا، وَبِالْعَكْسِ فَالْأَجْزَاءُ مُتَبَدِّلَةٌ وَالْإِنْسَانُ الْمُعَيَّنُ هُوَ الَّذِي كَانَ مَوْجُودًا وَالْبَاقِي غَيْرَ الزَّائِلِ، فَالْإِنْسَانُ أَمْرٌ وَرَاءَ هَذَا الْهَيْكَلِ الْمَحْسُوسِ، وَذَلِكَ الْأَمْرُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ جِسْمًا سَارِيًا فِي الْبَدَنِ أَوْ جُزْءًا فِي بَعْضِ جَوَانِبِ الْبَدَنِ كَقَلْبٍ أَوْ دِمَاغٍ أَوْ مَوْجُودًا مُجَرَّدًا عَلَى مَا يَقُولُهُ الْفَلَاسِفَةُ وَعَلَى جَمِيعِ التَّقْدِيرَاتِ فَلَا امْتِنَاعَ فِي بَقَاءِ ذَلِكَ الشَّيْءِ مَعَ تَطَرُّقِ التَّغَيُّرِ إِلَى هَذَا الْهَيْكَلِ وَهَذَا هُوَ الْمَسْخُ وَبِهَذَا التقدير يجوز في المالك الَّذِي تَكُونُ جُثَّتُهُ فِي غَايَةِ الْعِظَمِ أَنْ يَدْخُلَ حُجْرَةَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَعَنِ الثَّانِي أَنَّ الْأَمَانَ يَحْصُلُ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ، وَلَمَّا ثَبَتَ بِمَا قَرَّرْنَا جَوَازُ الْمَسْخِ أَمْكَنَ إِجْرَاءُ الْآيَةِ عَلَى ظَاهِرِهَا، وَلَمْ يَكُنْ بِنَا حَاجَةٌ إِلَى التَّأْوِيلِ الَّذِي ذَكَرَهُ مُجَاهِدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ وَإِنْ كَانَ مَا ذَكَرَهُ غَيْرَ مُسْتَبْعَدٍ جِدًّا، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا أَصَرَّ عَلَى جَهَالَتِهِ بَعْدَ ظُهُورِ الْآيَاتِ وَجَلَاءِ الْبَيِّنَاتِ فَقَدْ يُقَالُ فِي الْعُرْفِ الظَّاهِرِ إِنَّهُ حِمَارٌ وَقِرْدٌ، وَإِذَا كَانَ هَذَا الْمَجَازُ مِنَ الْمَجَازَاتِ الظَّاهِرَةِ الْمَشْهُورَةِ لَمْ يَكُنْ فِي الْمَصِيرِ إِلَيْهِ مَحْذُورٌ الْبَتَّةَ. بَقِيَ هَاهُنَا سُؤَالَانِ.

السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ بَعْدَ أَنْ يَصِيرَ قِرْدًا لَا يَبْقَى لَهُ فَهْمٌ وَلَا عَقْلٌ وَلَا عِلْمٌ فَلَا يَعْلَمُ مَا نَزَلَ بِهِ من العذاب