للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مَعَ أَنَّ كَلِمَةَ (إِنْ) اتِّصَالُهَا بِالْفِعْلِ أَوْلَى، وَذَلِكَ لِيَكُونَ الِابْتِدَاءُ بِمَا يَمْنَعُ مِنَ الْقِتَالِ، فَيَتَأَكَّدُ مَعْنَى النَّكِرَةِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهَا بِكَلِمَةِ (إِنْ) وذلك لأن كونهما طائفتين مؤمنين يَقْتَضِي أَنْ لَا يَقَعَ الْقِتَالُ مِنْهُمَا، فَإِنْ قِيلَ فَلِمَ لَمْ يَقُلْ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ فَاسْقٌ جَاءَكُمْ، أَوْ إِنْ أَحَدٌ مِنَ الْفُسَّاقِ جَاءَكُمْ، لِيَكُونَ الِابْتِدَاءُ بِمَا يَمْنَعُهُمْ مِنَ الْإِصْغَاءِ إِلَى كَلَامِهِ، وَهُوَ كَوْنُهُ فَاسِقًا؟ نَقُولُ الْمَجِيءُ بِالنَّبَأِ الْكَاذِبِ يُورِثُ كَوْنَ الْإِنْسَانِ فَاسِقًا، أَوْ يَزْدَادُ بِسَبَبِهِ فِسْقُهُ، فَالْمَجِيءُ بِهِ سَبَبُ الْفِسْقِ فَقَدَّمَهُ. وَأَمَّا الِاقْتِتَالُ فَلَا يَقَعُ سَبَبًا لِلْإِيمَانِ أَوِ الزِّيَادَةِ، فَقَالَ: إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ أَيْ سَوَاءٌ كَانَ فَاسِقًا أَوْ لَا أَوْ جَاءَكُمْ بِالنَّبَأِ فَصَارَ فَاسِقًا بِهِ، وَلَوْ قَالَ: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْفُسَّاقِ جَاءَكُمْ، كَانَ لَا يَتَنَاوَلُ إِلَّا مَشْهُورَ الْفِسْقِ قَبْلَ الْمَجِيءِ إِذَا جَاءَهُمْ بِالنَّبَأِ.

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ تَعَالَى: اقْتَتَلُوا وَلَمْ يَقُلْ: يَقْتَتِلُوا، لِأَنَّ صِيغَةَ الِاسْتِقْبَالِ تُنْبِئُ عَنِ الدَّوَامِ وَالِاسْتِمْرَارِ، فَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ طَائِفَتَيْنِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ إِنْ تَمَادَى الِاقْتِتَالُ بَيْنَهُمَا فَأَصْلِحُوا، وَهَذَا لِأَنَّ صِيغَةَ الْمُسْتَقْبَلِ تُنْبِئُ عَنْ ذَلِكَ، يُقَالُ فُلَانٌ يَتَهَجَّدُ وَيَصُومُ.

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَالَ: اقْتَتَلُوا وَلَمْ يَقُلْ اقْتَتَلَا، وَقَالَ: فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما وَلَمْ يَقُلْ بَيْنَهُمْ، ذَلِكَ لِأَنَّ عِنْدَ الِاقْتِتَالِ تَكُونُ الْفِتْنَةُ قَائِمَةً، وَكُلُّ أَحَدٍ بِرَأْسِهِ يَكُونُ فَاعِلًا فِعْلًا، فَقَالَ: اقْتَتَلُوا وَعِنْدَ الْعَوْدِ إِلَى الصُّلْحِ تَتَّفِقُ كَلِمَةُ كُلِّ طَائِفَةٍ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ يَتَحَقَّقُ الصُّلْحُ فَقَالَ: بَيْنَهُما لِكَوْنِ/ الطائفتين حينئذ كنفسين.

[قوله تعالى فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما إلى قوله إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ] ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما إِشَارَةً إِلَى نَادِرَةٍ أُخْرَى وَهِيَ الْبَغْيُ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَوَقَّعٍ، فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَصِحُّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ كَلِمَةُ (إِنْ) مَعَ أَنَّهَا تُسْتَعْمَلُ فِي الشَّرْطِ الَّذِي لَا يُتَوَقَّعُ وُقُوعُهُ، وَبَغْيُ أَحَدِهِمَا عِنْدَ الِاقْتِتَالِ لَا بُدَّ مِنْهُ، إِذْ كَلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَكُونُ مُحْسِنًا، فَقَوْلُهُ إِنْ تَكُونُ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِ الْقَائِلِ: إِنْ طَلَعَتِ الشَّمْسُ، نَقُولُ فِيهِ مَعْنًى لَطِيفٌ، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: الِاقْتِتَالُ بَيْنَ طَائِفَتَيْنِ لَا يَكُونُ إِلَّا نَادِرَ الْوُقُوعِ، وَهُوَ كَمَا تَظُنُّ كُلُّ طَائِفَةٍ أَنَّ الْأُخْرَى فِيهَا الْكُفْرُ وَالْفَسَادُ، فَالْقِتَالُ وَاجِبٌ كَمَا سَبَقَ فِي اللَّيَالِي الْمُظْلِمَةِ، أَوْ يَقَعُ لِكُلِّ وَاحِدٍ أَنَّ الْقِتَالَ جَائِزٌ بِالِاجْتِهَادِ، وَهُوَ خَطَأٌ، فَقَالَ تَعَالَى: الِاقْتِتَالُ لَا يَقَعُ إِلَّا كَذَا، فَإِنْ بَانَ لَهُمَا أَوْ لِأَحَدِهِمَا الْخَطَأُ وَاسْتَمَرَّ عَلَيْهِ فَهُوَ نَادِرٌ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَكُونُ قَدْ بَغَى فَقَالَ: فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى يَعْنِي بَعْدَ اسْتِبَانَةِ الْأَمْرِ، وَحِينَئِذٍ فَقَوْلُهُ فَإِنْ بَغَتْ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ لِأَنَّهُ يُفِيدُ النُّدْرَةَ وَقِلَّةَ الْوُقُوعِ، وَفِيهِ أَيْضًا مَبَاحِثُ الْأَوَّلُ: قَالَ:

فَإِنْ بَغَتْ وَلَمْ يَقُلْ فَإِنْ تَبْغِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: اقْتَتَلُوا وَلَمْ يَقُلْ يَقْتَتِلُوا الثَّانِي: قَالَ: حَتَّى تَفِيءَ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْقِتَالَ لَيْسَ جَزَاءً لِلْبَاغِي كَحَدِّ الشُّرْبِ الَّذِي يُقَامُ وَإِنْ تَرَكَ الشُّرْبَ، بَلِ الْقِتَالُ إِلَى حَدِّ الْفَيْئَةِ، فَإِنْ فَاءَتِ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ حَرُمَ قِتَالُهُمْ الثَّالِثُ: هَذَا الْقِتَالُ لِدَفْعِ الصَّائِلِ، فَيَنْدَرِجُ فِيهِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَتِ الْفَيْئَةُ مِنْ إِحْدَاهُمَا، فَإِنْ حَصَلَتْ مِنَ الْأُخْرَى لَا يُوجَدُ الْبَغْيُ الَّذِي لِأَجْلِهِ حَلَّ الْقِتَالُ الرَّابِعُ: هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنَ بِالْكَبِيرَةِ لَا يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ مُؤْمِنًا لِأَنَّ الْبَاغِيَ جَعَلَهُ مِنْ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ وَسَمَّاهُمَا مُؤْمِنِينَ الْخَامِسُ: قَوْلُهُ تَعَالَى:

إِلى أَمْرِ اللَّهِ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا أَحَدُهَا: إِلَى طَاعَةِ الرَّسُولِ وَأُولِي الْأَمْرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ [النِّسَاءِ: ٥٩] . وَثَانِيهَا: إِلَى أَمْرِ اللَّهِ، أَيْ إِلَى الصُّلْحِ فَإِنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى:

وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ [الْأَنْفَالِ: ١] ، ثَالِثُهَا: إِلَى أَمْرِ اللَّهِ بِالتَّقْوَى، فَإِنَّ مَنْ خَافَ اللَّهَ حَقَّ الْخَوْفِ لَا يَبْقَى لَهُ عَدَاوَةٌ إِلَّا مَعَ الشَّيْطَانِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا [فَاطِرٍ: ٦] ، السَّادِسُ: لَوْ قَالَ قَائِلٌ قَدْ ذَكَرْتُمْ مَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ الشَّرْطِ غَيْرَ مُتَوَقَّعِ الْوُقُوعِ وَقُلْتُمْ بِأَنَّ الْقِتَالَ وَالْبَغْيَ مِنَ الْمُؤْمِنِ نادر، فإذن تكون الفئة

<<  <  ج: ص:  >  >>