للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُؤْمِنَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ حَاضِرًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ غَائِبًا، فَإِنْ كَانَ حَاضِرًا فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُسْخَرَ مِنْهُ وَلَا يُلْتَفَتَ إِلَيْهِ بِمَا يُنَافِي التَّعْظِيمَ، وَفِي الْآيَةِ إِشَارَةٌ إِلَى أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ مُرَتَّبَةٍ بَعْضُهَا دُونَ بَعْضٍ وَهِيَ السُّخْرِيَةُ وَاللَّمْزُ وَالنَّبْزُ، فَالسُّخْرِيَةُ هِيَ أَنْ لَا يَنْظُرَ الْإِنْسَانُ إِلَى أَخِيهِ بِعَيْنِ الْإِجْلَالِ وَلَا يَلْتَفِتَ إِلَيْهِ وَيُسْقِطَهُ عَنْ دَرَجَتِهِ، وَحِينَئِذٍ لَا يَذْكُرُ مَا فِيهِ مِنَ الْمَعَايِبِ، وَهَذَا كَمَا قَالَ بَعْضُ النَّاسِ تَرَاهُمْ إِذَا ذُكِرَ عِنْدَهُمْ عَدُوُّهُمْ يَقُولُونَ هُوَ دُونَ أَنْ يُذْكَرَ، وَأَقَلُّ مِنْ أَنْ يُلْتَفَتَ إِلَيْهِ، فَقَالَ لَا تُحَقِّرُوا إِخْوَانَكُمْ وَلَا تَسْتَصْغِرُوهُمْ الثَّانِي: هُوَ اللَّمْزُ وَهُوَ ذِكْرُ مَا فِي الرَّجُلِ مِنَ الْعَيْبِ فِي غَيْبَتِهِ وَهَذَا دُونَ الْأَوَّلِ، لِأَنَّ فِي الْأَوَّلِ لَمْ يُلْتَفَتْ إِلَيْهِ وَلَمْ يَرْضَ بِأَنْ يَذْكُرَهُ أَحَدٌ وَإِنَّمَا جَعَلَهُ مِثْلَ الْمَسْخَرَةِ الَّذِي لَا يُغْضَبُ لَهُ وَلَا عَلَيْهِ الثَّالِثُ: هُوَ النَّبْزُ وَهُوَ دُونَ الثَّانِي، لِأَنَّ فِي هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ يُضِيفُ إِلَيْهِ وَصْفًا ثَابِتًا فِيهِ يُوجِبُ بغضه وحظ مَنْزِلَتِهِ، وَأَمَّا النَّبْزُ فَهُوَ مُجَرَّدُ التَّسْمِيَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّقَبَ الْحَسَنَ وَالِاسْمَ الْمُسْتَحْسَنَ إِذَا وُضِعَ لِوَاحِدٍ وَعُلِّقَ عَلَيْهِ لَا يَكُونُ مَعْنَاهُ مَوْجُودًا فَإِنَّ مَنْ يُسَمَّى سَعْدًا وَسَعِيدًا قَدْ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ، وَكَذَا مَنْ لُقِّبَ إِمَامَ الدِّينِ وَحُسَامَ الدِّينِ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ كَذَلِكَ وَإِنَّمَا هُوَ عَلَامَةٌ وَزِينَةٌ، وَكَذَلِكَ النَّبْزُ بِالْمَرْوَانِ وَمَرْوَانُ الْحِمَارُ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ سِمَةً وَنِسْبَةً، وَلَا يَكُونُ اللَّفْظُ مُرَادًا إِذَا لَمْ يُرَدْ بِهِ الْوَصْفُ كَمَا أَنَّ الْأَعْلَامَ كَذَلِكَ، فَإِنَّكَ إِذَا قُلْتَ لِمَنْ سُمِّيَ بِعَبْدِ اللَّهِ أَنْتَ عَبْدُ اللَّهِ فَلَا تَعْبُدْ غَيْرَهُ، وَتُرِيدُ بِهِ وَصْفَهُ لَا تَكُونُ قَدْ أَتَيْتَ بِاسْمِ عَلَمِهِ إِشَارَةً، فَقَالَ لَا تَتَكَبَّرُوا فَتَسْتَحْقِرُوا إِخْوَانَكُمْ وَتَسْتَصْغِرُوهُمْ بِحَيْثُ لَا تَلْتَفِتُوا إِلَيْهِمْ أَصْلًا وَإِذَا نَزَلْتُمْ عَنْ هَذَا مِنَ النِّعَمِ إِلَيْهِمْ فَلَا تَعِيبُو [هُمْ] طَالِبِينَ حَطَّ دَرَجَتِهِمْ وَالْغَضَّ عَنْ مَنْزِلَتِهِمْ، وَإِذَا تَرَكْتُمُ النَّظَرَ فِي مَعَايِبِهِمْ وَوَصْفِهِمْ بِمَا يَعِيبُهُمْ فَلَا تُسَمُّوهُمْ بِمَا يَكْرَهُونَهُ وَلَا تُهَوِّلُوا هَذَا لَيْسَ بِعَيْبٍ يُذْكَرُ فِيهِ إِنَّمَا هُوَ اسْمٌ يُتَلَفَّظُ بِهِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ إِلَى بَيَانِ صِفَةٍ وَذَكَرَ فِي الْآيَةِ مَسَائِلَ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ الْقَوْمُ اسْمٌ يَقَعُ عَلَى جَمْعٍ مِنَ الرِّجَالِ وَلَا يَقَعُ/ عَلَى النِّسَاءِ وَلَا عَلَى الْأَطْفَالِ لِأَنَّهُ جَمْعٌ قَائِمٌ كَصَوْمٍ جَمْعُ صَائِمٍ، وَالْقَائِمُ بِالْأُمُورِ هُمُ الرِّجَالُ فَعَلَى هَذَا الْأَقْوَامُ الرِّجَالُ لَا النِّسَاءُ فَائِدَةٌ: وَهِيَ أَنَّ عَدَمَ الِالْتِفَاتِ وَالِاسْتِحْقَارِ إِنَّمَا يَصْدُرُ فِي أَكْثَرِ الْأَمْرِ مِنَ الرِّجَالِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الرِّجَالِ، لِأَنَّ الْمَرْأَةَ فِي نَفْسِهَا ضَعِيفَةٌ، فَإِذَا لَمْ يَلْتَفِتِ الرِّجَالُ إِلَيْهَا لَا يَكُونُ لَهَا أَمْرٌ،

قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «النِّسَاءُ لَحْمٌ عَلَى وَضَمٍ إِلَّا مَا رَدَدْتَ عَنْهُ»

وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَلَا يُوجَدُ مِنْهَا اسْتِحْقَارُ الرَّجُلِ وَعَدَمُ الْتِفَاتِهَا إِلَيْهِ لِاضْطِرَارِهَا فِي دَفْعِ حَوَائِجِهَا [إِلَيْهِ] ، وَأَمَّا الرِّجَالُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الرِّجَالِ وَالنِّسَاءُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى النِّسَاءِ فَيُوجَدُ فِيهِمْ هَذَا النَّوْعُ مِنَ الْقُبْحِ وَهَذَا أَشْهَرُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ فِي الدَّرَجَةِ الْعَالِيَةِ الَّتِي هِيَ نِهَايَةُ الْمُنْكَرِ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ كَسْرًا لَهُ وَبُغْضًا لِنُكْرِهِ، وَقَالَ في المرتبة الثانية لا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ جَعَلَهُمْ كَأَنْفُسِهِمْ لَمَّا نَزَلُوا دَرَجَةً رَفَعَهُمُ اللَّهُ دَرَجَةً وَفِي الْأَوَّلِ جَعَلَ الْمَسْخُورَ مِنْهُ خَيْرًا، وَفِي الثَّانِي جَعَلَ الْمَسْخُورَ مِنْهُ مَثَلًا، وَفِي قَوْلِهِ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ حِكْمَةٌ وَهِيَ أَنَّهُ وَجَدَ مِنْهُمُ النُّكْرَ الَّذِي هُوَ مُفْضٍ إِلَى الْإِهْمَالِ وَجَعَلَ نَفْسَهُ خَيْرًا مِنْهُمْ كَمَا فَعَلَ إِبْلِيسُ حَيْثُ لَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى آدَمَ وَقَالَ: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ [الأعراف: ١٢] فَصَارَ هُوَ خَيْرًا، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ أَنْ يَكُونُوا يَصِيرُوا فَإِنَّ مَنِ اسْتَحْقَرَ إِنْسَانًا لِفَقْرِهِ أَوْ وَحْدَتِهِ أَوْ ضَعْفِهِ لَا يَأْمَنُ أَنْ يَفْتَقِرَ هُوَ وَيَسْتَغْنِيَ الْفَقِيرُ، وَيَضْعُفَ هُوَ وَيَقْوَى الضَّعِيفُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ تَعَالَى: قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ وَلَمْ يَقُلْ نَفْسٌ مِنْ نَفْسٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا فِيهِ إِشَارَةٌ إلى منع

<<  <  ج: ص:  >  >>