للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْأَوَّلُ: إِنْ قُلْنَا إِنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِإِنْبَاتِ الزَّرْعِ وَإِنْزَالِ الْمَاءِ كَانَ لِإِمْكَانِ الْبَقَاءِ بِالرِّزْقِ فَقَوْلُهُ وَأَحْيَيْنا بِهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى الْإِعَادَةِ كَمَا أَنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى الْبَقَاءِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: كَذلِكَ الْخُرُوجُ فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَصِحُّ قَوْلُكَ اسْتِدْلَالًا، وَإِنْزَالُ الْمَاءِ كَانَ لِبَيَانِ الْبَقَاءِ مَعَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً.

وَقَالَ: كَذلِكَ الْخُرُوجُ فَيَكُونُ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى الْبَقَاءِ قَبْلَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْإِحْيَاءِ وَالْإِحْيَاءُ سَابِقٌ عَلَى الْإِبْقَاءِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُبَيِّنَ أَوَّلًا أَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى، ثُمَّ يُبَيِّنَ أَنَّهُ يُبْقِيهِمْ، نَقُولُ لَمَّا كَانَ الِاسْتِدْلَالُ بالسموات وَالْأَرْضِ عَلَى الْإِعَادَةِ كَافِيًا بَعْدَ ذِكْرِ دَلِيلِ الْإِحْيَاءِ ذَكَرَ دَلِيلَ الْإِبْقَاءِ، ثُمَّ عَادَ وَاسْتَدْرَكَ فَقَالَ هَذَا الدَّلِيلُ الدَّالُّ عَلَى الْإِبْقَاءِ دَالٌّ عَلَى الْإِحْيَاءِ، وَهُوَ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَيْهِ لِسَبْقِ دَلِيلَيْنِ قَاطِعَيْنِ فَبَدَأَ بِبَيَانِ الْبَقَاءِ وَقَالَ: فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ [ق: ٩] ثُمَّ ثَنَّى بِإِعَادَةِ ذِكْرِ الْإِحْيَاءِ فَقَالَ: وَأَحْيَيْنا بِهِ وَإِنْ قُلْنَا إِنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِإِنْزَالِ الْمَاءِ وَإِنْبَاتِ الزَّرْعِ لَا لِبَيَانِ إِمْكَانِ الْحَشْرِ فَقَوْلُهُ وَأَحْيَيْنا بِهِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُغَايِرًا لِقَوْلِهِ فَأَنْبَتْنا بِهِ بِخِلَافِ مَا لَوْ قُلْنَا بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْإِحْيَاءَ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ الْإِنْبَاتِ لَكِنَّ الِاسْتِدْلَالَ لَمَّا كَانَ بِهِ عَلَى أَمْرَيْنِ مُتَغَايِرَيْنِ جَازَ الْعَطْفُ، تَقُولُ خَرَجَ لِلتِّجَارَةِ وَخَرَجَ لِلزِّيَارَةِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ خَرَجَ لِلتِّجَارَةِ وَذَهَبَ لِلتِّجَارَةِ إِلَّا إِذَا كَانَ الذَّهَابُ غَيْرَ الْخُرُوجِ فَنَقُولُ الْإِحْيَاءُ غَيْرُ إِنْبَاتِ الرِّزْقِ لِأَنَّ بِإِنْزَالِ الْمَاءِ مِنَ السَّمَاءِ يَخْضَرُّ وَجْهُ الْأَرْضِ وَيَخْرُجُ مِنْهَا أَنْوَاعٌ مِنَ الْأَزْهَارِ وَلَا يُتَغَذَّى بِهِ وَلَا يُقْتَاتُ، وَإِنَّمَا يَكُونُ بِهِ زِينَةُ وَجْهِ الْأَرْضِ وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الزَّرْعِ وَالشَّجَرِ لِأَنَّهُ يُوجَدُ فِي كُلِّ مَكَانٍ وَالزَّرْعُ وَالثَّمَرُ لَا يُوجَدَانِ فِي كُلِّ مَكَانٍ، فَكَذَلِكَ هَذَا الْإِحْيَاءُ، فَإِنْ قِيلَ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُقَدَّمَ فِي الذِّكْرِ لِأَنَّ اخْضِرَارَ وَجْهِ الْأَرْضِ يَكُونُ قَبْلَ حُصُولِ الزَّرْعِ وَالثَّمَرِ، وَلِأَنَّهُ يُوجَدُ فِي كُلِّ مَكَانٍ بِخِلَافِ الزَّرْعِ وَالثَّمَرِ، نَقُولُ لَمَّا كَانَ إِنْبَاتُ الزَّرْعِ وَالثَّمَرِ أَكْمَلَ نِعْمَةً قَدَّمَهُ فِي الذِّكْرِ.

الثَّانِي: فِي قَوْلِهِ بَلْدَةً مَيْتاً نَقُولُ جَازَ إِثْبَاتُ التَّاءِ فِي الْمَيْتِ وَحَذْفُهَا عِنْدَ وَصْفِ الْمُؤَنَّثِ بِهَا، لِأَنَّ الْمَيْتَ تَخْفِيفٌ لِلْمَيِّتِ، وَالْمَيِّتُ فَيْعِلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ فَيَجُوزُ فِيهِ إِثْبَاتُ التَّاءِ لِأَنَّ التَّسْوِيَةَ فِي الْفَعِيلِ بِمَعْنَى المفعول كقوله إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الْأَعْرَافِ: ٥٦] فَإِنْ قِيلَ لِمَ سَوَّى بَيْنَ الْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ فِي الْفَعِيلِ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ؟ قُلْنَا لِأَنَّ الْحَاجَةَ إِلَى التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ أَشَدُّ مِنَ الْحَاجَةِ إِلَى التمييز الْمَفْعُولِ الْمُذَكَّرِ وَالْمَفْعُولِ الْمُؤَنَّثِ نَظَرًا إِلَى الْمَعْنَى وَنَظَرًا إِلَى اللَّفْظِ، فَأَمَّا الْمَعْنَى فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا اللفظ فلأن المخالفة بين الفاعل والمفعول في الوزن والحرف أشد من المخالفة بين المفعول وَالْمَفْعُولِ لَهُ، إِذَا عُلِمَ هَذَا فَنَقُولُ فِي الْفَعِيلِ لَمْ يَتَمَيَّزِ الْفَاعِلُ بِحَرْفٍ فَإِنَّ فَعِيلًا جَاءَ بِمَعْنَى الْفَاعِلِ كَالنَّصِيرِ وَالْبَصِيرِ وَبِمَعْنَى الْمَفْعُولِ كَالْكَسِيرِ وَالْأَسِيرِ، وَلَا يَتَمَيَّزُ بِحَرْفٍ عِنْدَ الْمُخَالَفَةِ إِلَّا الْأَقْوَى فَلَا يَتَمَيَّزُ عِنْدَ الْمُخَالَفَةِ/ الْأَدْنَى، وَالتَّحْقِيقُ فِيهِ أَنَّ فَعِيلًا وُضِعَ لِمَعْنًى لَفْظِيٍّ، وَالْمَفْعُولَ وُضِعَ لِمَعْنًى حَقِيقِيٍّ فَكَأَنَّ الْقَائِلَ قَالَ اسْتَعْمَلُوا لَفْظَ الْمَفْعُولِ لِلْمَعْنَى الْفُلَانِيِّ، وَاسْتَعْمَلُوا لَفْظَ الْفَعِيلِ مَكَانَ لَفْظِ الْمَفْعُولِ فَصَارَ فَعِيلٌ كَالْمَوْضُوعِ لِلْمَفْعُولِ، وَالْمَفْعُولُ كَالْمَوْضُوعِ لِلْمَعْنَى، وَلَمَّا كَانَ تَغَيُّرُ اللَّفْظِ تَابِعًا لِتَغَيُّرِ الْمَعْنَى تَغَيَّرَ الْمَفْعُولُ لِكَوْنِهِ بِإِزَاءِ الْمَعْنَى، وَلَمْ يَتَغَيَّرِ الْفَعِيلُ لِكَوْنِهِ بِإِزَاءِ اللَّفْظِ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ، فَإِنْ قِيلَ فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا الْمَوْضِعِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها [يس: ٣٣] حَيْثُ أَثْبَتَ التَّاءَ هُنَاكَ؟ نَقُولُ الْأَرْضُ أَرَادَ بِهَا الْوَصْفَ فَقَالَ: الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ لِأَنَّ مَعْنَى الْفَاعِلِيَّةِ ظَاهِرٌ هُنَاكَ وَالْبَلْدَةُ الْأَصْلُ فِيهَا الْحَيَاةُ، لِأَنَّ الْأَرْضَ إِذَا صَارَتْ حَيَّةً صَارَتْ آهِلَةً، وَأَقَامَ بِهَا النَّاسُ وَعَمَّرُوهَا فَصَارَتْ بَلْدَةً فَأَسْقَطَ التَّاءَ لِأَنَّ مَعْنَى الْفَاعِلِيَّةِ ثَبَتَ

<<  <  ج: ص:  >  >>