للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إِلَى الْإِخْبَارِ عَنْهَا، فَلَوْ قَالَ الْقَائِلُ فُلَانٌ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه أَوْ قَالَ اللَّه أَكْبَرُ طَوَّلَ الْكَلَامَ، فَمَسَّتِ الْحَاجَةُ إِلَى اسْتِعْمَالِ لَفْظَةٍ وَاحِدَةٍ مُفِيدَةٍ لِذَلِكَ لِعَدَمِ تَكَرُّرٍ مَا فِي الْأَوَّلِ، وَأَمَّا مُنَاسَبَةُ هَذَا الْوَجْهِ لِلْكَلَامِ الَّذِي هُوَ فِيهِ، فَهِيَ أَنَّ تَكْذِيبَهُمُ الرَّسُولَ وَتَعَجُّبَهُمْ مِنْ قَوْلِهِ أَوِ اسْتِهْزَاءَهُمْ كَانَ يُوجِبُ فِي الْعَادَةِ أَنْ يَشْتَغِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَعْنِهِمْ وَسَبِّهِمْ وَالدُّعَاءِ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاجْعَلْ كَلَامَكَ بَدَلَ الدُّعَاءِ عَلَيْهِمُ التَّسْبِيحَ للَّه وَالْحَمْدَ لَهُ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ أَوْ كَنُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَيْثُ قَالَ: رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً [نُوحٍ: ٢٦] بَلِ ادْعُ إلى ربك فإذا ضجرت عن ذَلِكَ بِسَبَبِ إِصْرَارِهِمْ فَاشْتَغَلَ بِذِكْرِ رَبِّكَ فِي نَفْسِكَ، وَفِيهِ مَبَاحِثُ:

الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: اسْتَعْمَلَ اللَّه التَّسْبِيحَ تَارَةً مَعَ اللَّامِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يُسَبِّحُ لِلَّهِ [الجمعة: ١] ويُسَبِّحُونَ لَهُ [فُصِّلَتْ: ٣٨] وَأُخْرَى مَعَ الْبَاءِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ [الْوَاقِعَةِ: ٧٤] وسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ [طه: ١٣٠] وَثَالِثَةً مِنْ غَيْرِ حَرْفٍ فِي قَوْلِهِ وَسَبِّحْهُ [الْإِنْسَانِ: ٢٦] وَقَوْلُهُ وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً [الْأَحْزَابِ: ٤٢] وَقَوْلُهُ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى [الأعلى: ١] فما الفرق بينها؟ نَقُولُ أَمَّا الْبَاءُ فَهِيَ الْأَهَمُّ وَبِالتَّقْدِيمِ أَوْلَى فِي هَذَا الْمَوْضِعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ فَنَقُولُ أَمَّا عَلَى قَوْلِنَا الْمُرَادُ مِنْ سَبِّحْ قُلْ سُبْحَانَ اللَّه، فَالْبَاءُ لِلْمُصَاحَبَةِ أَيْ مُقْتَرِنًا بِحَمْدِ اللَّه، فَيَكُونُ كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ قُلْ سُبْحَانَ اللَّه وَالْحَمْدُ للَّه، وَعَلَى قَوْلِنَا الْمُرَادِ التَّنْزِيهُ لِذَلِكَ أَيْ نَزِّهْهُ وَأَقْرِنْهُ بِحَمْدِهِ أَيْ سَبِّحْهُ وَاشْكُرْهُ حَيْثُ وَفَّقَكَ اللَّه لِتَسْبِيحِهِ فَإِنَّ السَّعَادَةَ الْأَبَدِيَّةَ لِمَنْ سَبَّحَهُ، وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ الْمَفْعُولُ/ غَيْرَ مَذْكُورٍ لِحُصُولِ الْعِلْمِ بِهِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ تَقْدِيرُهُ: سَبِّحِ اللَّه بِحَمْدِ رَبِّكَ، أَيْ مُلْتَبِسًا وَمُقْتَرِنًا بِحَمْدِ رَبِّكَ، وَعَلَى قَوْلِنَا صَلِّ، نَقُولُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ أَمْرًا بِقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ فِي الصَّلَاةِ يُقَالُ:

صَلَّى فُلَانٌ بِسُورَةِ كَذَا أَوْ صَلَّى بِقُلْ هُوَ اللَّه أحد، فكأنه يقول صلّى بِحَمْدِ اللَّه أَيْ مَقْرُوءًا فِيهَا: الْحَمْدُ للَّه رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَهُوَ أَبْعَدُ الْوُجُوهِ، وَأَمَّا التَّعْدِيَةُ مِنْ غَيْرِ حَرْفٍ فَنَقُولُ هُوَ الْأَصْلُ لِأَنَّ التَّسْبِيحَ يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ لِأَنَّ مَعْنَاهُ تَبْعِيدٌ مِنَ السُّوءِ، وَأَمَّا اللَّامُ فَيَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ كَمَا فِي قَوْلِ الْقَائِلِ نَصَحْتُهُ وَنَصَحْتُ لَهُ، وَشَكَرْتُهُ وَشَكَرْتُ لَهُ وَثَانِيهِمَا: أَنْ يَكُونَ لِبَيَانِ الْأَظْهَرِ أَيْ يُسَبِّحُونَ اللَّه وَقُلُوبُهُمْ لِوَجْهِ اللَّه خالصة.

البحث الثاني: قال هاهنا سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ مِنْ غَيْرِ بَاءٍ فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَوْضِعَيْنِ؟ نَقُولُ الْأَمْرُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَاحِدٌ عَلَى قَوْلِنَا التَّقْدِيرُ سَبِّحِ اللَّه مُقْتَرِنًا بِحَمْدِ رَبِّكَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ سَبِّحِ اللَّه كَقَوْلِ الْقَائِلِ فَسَبِّحْهُ غَيْرَ أَنَّ الْمَفْعُولَ لَمْ يُذْكَرْ أَوَّلًا: لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ بِحَمْدِ رَبِّكَ عَلَيْهِ وَثَانِيًا: لِدَلَالَةِ مَا سَبَقَ عَلَيْهِ لَمْ يَذْكُرْ بِحَمْدِ رَبِّكَ، الْجَوَابُ الثَّانِي عَلَى قَوْلِنَا سَبِّحْ بِمَعْنَى صَلِّ يَكُونُ الْأَوَّلُ أَمْرًا بِالصَّلَاةِ، وَالثَّانِي أَمْرًا بِالتَّنْزِيهِ، أَيْ وَصَلِّ بِحَمْدِ رَبِّكَ فِي الْوَقْتِ وَبِاللَّيْلِ نَزِّهْهُ عَمًّا لَا يَلِيقُ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ هَذَا إِشَارَةً إِلَى الْعَمَلِ وَالذِّكْرِ وَالْفِكْرِ. فَقَوْلُهُ سَبِّحْ إِشَارَةٌ إِلَى خَيْرِ الْأَعْمَالِ وَهُوَ الصَّلَاةُ وَقَوْلُهُ بِحَمْدِ رَبِّكَ إِشَارَةٌ إِلَى الذِّكْرِ، وَقَوْلُهُ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ إشارة إلى الفكر حين هدو الْأَصْوَاتِ، وَصَفَاءِ الْبَاطِنِ أَيْ نَزِّهْهُ عَنْ كُلِّ سُوءٍ بِفِكْرِكَ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَتَّصِفُ إِلَّا بِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَنُعُوتِ الْجَلَالِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَدْبارَ السُّجُودِ قَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ مَا يُقَالُ فِي تَفْسِيرِهِ، وَوَجْهٌ آخَرُ هُوَ أَنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى الْأَمْرِ بِإِدَامَةِ التَّسْبِيحِ، فَقَوْلُهُ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ إِشَارَةٌ إِلَى أَوْقَاتِ الصَّلَاةِ، وَقَوْلُهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ يعني بعد ما فَرَغْتَ مِنَ السُّجُودِ وَهُوَ الصَّلَاةُ فَلَا تَتْرُكْ تَسْبِيحَ اللَّه وَتَنْزِيهَهُ بَلْ دَاوِمْ أَدْبَارَ السُّجُودِ لِيَكُونَ جَمِيعُ أَوْقَاتِكَ فِي التَّسْبِيحِ فَيُفِيدُ فَائِدَةَ قوله

<<  <  ج: ص:  >  >>