للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْكَثِيرَةِ إِنِّي لَا أَزَالُ أَشْكُرُكَ فَيَذْكُرُ النِّعَمَ وَهِيَ سَبَبٌ مُفِيدٌ لِدَوَامِ الشُّكْرِ وَيَسْلُكُ مَسْلَكَ الْقَسَمِ، كَذَلِكَ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ كُلُّهَا دَلِيلٌ عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْإِعَادَةِ، فَإِنْ قِيلَ فَلِمَ أَخْرَجَهَا مَخْرَجَ الْأَيْمَانِ؟ نَقُولُ لِأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ إذا شرع في أول كلامه بحلف بِعِلْمِ السَّامِعِ أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِكَلَامٍ عَظِيمٍ فَيُصْغِي إِلَيْهِ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُصْغِيَ إِلَيْهِ حَيْثُ يَعْلَمُ أَنَّ الْكَلَامَ لَيْسَ بِمُعْتَبَرٍ فَبَدَأَ بِالْحَلِفِ وَأَدْرَجَ الدَّلِيلَ فِي صُورَةِ الْيَمِينِ حَتَّى أَقْبَلَ الْقَوْمُ عَلَى سَمَاعِهِ فَخَرَجَ لَهُمُ الْبُرْهَانُ الْمُبِينُ، وَالتِّبْيَانُ الْمَتِينُ فِي صُورَةِ الْيَمِينِ، وَقَدِ اسْتَوْفَيْنَا الْكَلَامَ فِي سُورَةِ وَالصَّافَّاتِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي جَمِيعِ السُّوَرِ الَّتِي أَقْسَمَ اللَّهُ فِي ابْتِدَائِهَا بِغَيْرِ الْحُرُوفِ كَانَ الْقَسَمُ لِإِثْبَاتِ أَحَدِ الْأُصُولِ الثَّلَاثَةِ وَهِيَ: الْوَحْدَانِيَّةُ وَالرِّسَالَةُ وَالْحَشْرُ، وَهِيَ الَّتِي يَتِمُّ بِهَا الْإِيمَانُ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمْ يُقْسِمْ لِإِثْبَاتِ الْوَحْدَانِيَّةِ إِلَّا فِي سُورَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ تِلْكَ السُّوَرِ وَهِيَ وَالصَّافَّاتِ حَيْثُ قَالَ فِيهَا إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ [الصَّافَّاتِ: ٤] وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ وَإِنْ كَانُوا يَقُولُونَ أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً [ص: ٥] عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ، وَكَانُوا يُبَالِغُونَ فِي الشِّرْكِ، لَكِنَّهُمْ فِي تَضَاعِيفَ أَقْوَالِهِمْ، وَتَصَارِيفِ أَحْوَالِهِمْ كَانُوا يُصَرِّحُونَ بِالتَّوْحِيدِ، وَكَانُوا يَقُولُونَ: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزُّمَرِ: ٣] وَقَالَ تَعَالَى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزمر: ٣٨] فَلَمْ يُبَالِغُوا فِي الْحَقِيقَةِ فِي إِنْكَارِ الْمَطْلُوبِ الْأَوَّلِ، فَاكْتَفَى بِالْبُرْهَانِ، وَلَمْ يُكْثِرْ مِنَ الْأَيْمَانِ، وَفِي سُورَتَيْنِ مِنْهَا أَقْسَمَ لِإِثْبَاتِ صِدْقِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَوْنِهِ رَسُولًا فِي إِحْدَاهُمَا بِأَمْرٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى:

وَالنَّجْمِ إِذا هَوى مَا ضَلَّ صاحِبُكُمْ [النَّجْمِ: ١، ٢] وَفِي الثَّانِيَةِ بِأَمْرَيْنِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى، مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى [الضُّحَى: ١- ٣] وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَسَمَ عَلَى إِثْبَاتِ رِسَالَتِهِ قَدْ كَثُرَ بِالْحُرُوفِ وَالْقُرْآنِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ [يس: ١- ٣] وَقَدْ ذَكَرْنَا الْحُكْمَ فِيهِ أَنَّ مُعْجِزَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُرْآنُ، فَأَقْسَمَ بِهِ لِيَكُونَ فِي الْقَسَمِ الْإِشَارَةُ وَاقِعَةً إِلَى الْبُرْهَانِ، وَفِي بَاقِي السُّورِ كَانَ الْمُقْسَمُ عَلَيْهِ الْحَشْرَ وَالْجَزَاءَ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ لِكَوْنِ إِنْكَارِهِمْ فِي ذَلِكَ خَارِجًا عَنِ الْحَدِّ، وَعَدَمِ اسْتِيفَاءِ ذَلِكَ فِي صُورَةِ الْقَسَمِ بِالْحُرُوفِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَقْسَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِجُمُوعِ السَّلَامَةِ الْمُؤَنَّثَةِ فِي سُورٍ خَمْسٍ، وَلَمْ يُقْسِمْ بِجُمُوعٍ السَّلَامَةِ الْمُذَكَّرَةِ فِي سُورَةٍ أَصْلًا، فَلَمْ يَقُلْ: وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِي، وَلَا الْمُقَرَّبِينَ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، مَعَ أن المذكر أشرف، وذلك لأن جموع السلامة بِالْوَاوِ وَالنُّونِ فِي الْأَمْرِ الْغَالِبِ لِمَنْ يَعْقِلُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْقَسَمَ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَيْسَ لِبَيَانِ التَّوْحِيدِ إِلَّا فِي صُورَةِ ظُهُورِ الْأَمْرِ فِيهِ، وَحُصُولِ الِاعْتِرَافِ مِنْهُمْ بِهِ، وَلَا لِلرِّسَالَةِ لِحُصُولِ ذَلِكَ فِي صُوَرِ الْقَسَمِ بِالْحُرُوفِ وَالْقُرْآنِ.

بَقِيَ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ إِثْبَاتَ الْحَشْرِ وَالْجَزَاءِ، لكن إثبات الحشر لثواب الصالح، وعذاب/ الصالح، فَفَائِدَةُ ذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى مَنْ يَعْقِلُ، فَكَانَ الْأَمْرُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْقَسَمُ بِغَيْرِهِمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي السُّورَةِ الَّتِي أَقْسَمَ لِإِثْبَاتِ الْوَحْدَانِيَّةِ، أَقْسَمَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ بِالسَّاكِنَاتِ حَيْثُ قَالَ:

وَالصَّافَّاتِ [الصَّافَّاتِ: ١] وَفِي السُّوَرِ الْأَرْبَعِ الْبَاقِيَةِ أَقْسَمَ بِالْمُتَحَرِّكَاتِ، فَقَالَ: وَالذَّارِياتِ وَقَالَ:

وَالْمُرْسَلاتِ [الْمُرْسَلَاتِ: ١] وَقَالَ: وَالنَّازِعاتِ [النَّازِعَاتِ: ١] وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالسَّابِحاتِ ...

فَالسَّابِقاتِ [النازعات: ٣، ٤] وَقَالَ: وَالْعادِياتِ [الْعَادِيَاتِ: ١] وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحَشْرَ فِيهِ جَمْعٌ وَتَفْرِيقٌ، وَذَلِكَ بِالْحَرَكَةِ أَلْيَقُ، أَوْ أَنْ نَقُولَ فِي جَمِيعِ السُّوَرِ الْأَرْبَعِ أَقْسَمَ بِالرِّيَاحِ عَلَى مَا بَيَّنَ وَهِيَ الَّتِي تَجْمَعُ وَتُفَرِّقُ،

<<  <  ج: ص:  >  >>