للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَقَالَ تَرَبَّصُوا أَوْ لَا تَرَبَّصُوا كَمَا قَالَ: فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا [الطُّورِ: ١٦] نَقُولُ لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِذَا قَالَ الْقَائِلُ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْمِثَالِ اشْكُنِي أَوْ لَا تَشْكُنِي يَكُونُ ذَلِكَ مُفِيدًا عَدَمَ خَوْفِهِ مِنْهُ، فَإِذَا قَالَ اشْكُنِي يَكُونُ أَدَلَّ عَلَى عَدَمِ الْخَوْفِ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ أَنَا فَارِغٌ عَنْهُ، وَإِنَّمَا أَنْتَ تَتَوَهَّمُ أَنَّهُ يُفِيدُ فَافْعَلْ حَتَّى يَبْطُلَ اعْتِقَادُكَ.

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ وَهُوَ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا أَحَدُهَا: إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ أَتَرَبَّصُ هَلَاكَكُمْ وَقَدْ أُهْلِكُوا يَوْمَ بَدْرٍ وَفِي غَيْرِهِ مِنَ الْأَيَّامِ هَذَا مَا عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ وَالَّذِي نَقُولُهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ هُوَ أَنَّ الْكَلَامَ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا وَبَيَانُهَا هُوَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الْمَنُونِ الْمَوْتَ فَقَوْلُهُ فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ مَعْنَاهُ إِنِّي أَخَافُ الْمَوْتَ وَلَا أَتَمَنَّاهُ لَا لِنَفْسِي وَلَا لِأَحَدٍ، لِعَدَمِ عِلْمِي بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ وَأَنَا أَقُولُ مَا قَالَ رَبِّي أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ [آلِ عِمْرَانَ: ١٤٤] فَتَرَبَّصُوا مَوْتِي وَأَنَا متربصه وَلَا يَسُرُّكُمْ ذَلِكَ لِعَدَمِ حُصُولِ مَا تَتَوَقَّعُونَ بَعْدِي، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ كَمَا قِيلَ تَرَبَّصُوا مَوْتِي فَإِنِّي مُتَرَبِّصٌ مَوْتَكُمْ بِالْعَذَابِ، وَإِنْ قُلْنَا الْمُرَادُ مِنْ رَيْبِ الْمَنُونِ صُرُوفُ الدَّهْرِ فَمَعْنَاهُ إِنْكَارُ كَوْنِ صُرُوفِ الدَّهْرِ مُؤَثِّرَةً فَكَأَنَّهُ يَقُولُ أَنَا مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ حَتَّى أُبْصِرَ مَاذَا يَأْتِي بِهِ دَهْرُكُمُ الَّذِي تَجْعَلُونَهُ مُهْلِكًا وَمَاذَا يُصِيبُنِي مِنْهُ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَنَقُولُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَرَبَّصُ مَا يَتَرَبَّصُونَ، غَيْرَ أَنَّ فِي الْأَوَّلِ: تَرَبُّصُهُ مَعَ اعْتِقَادِ الْوُقُوعِ، وَفِي الثَّانِي: تَرَبُّصُهُ مَعَ اعْتِقَادِ عَدَمِ التَّأْثِيرِ، عَلَى طَرِيقَةِ مَنْ يَقُولُ أَنَا أَيْضًا أَنْتَظِرُ مَا يَنْتَظِرُهُ حَتَّى أَرَى مَاذَا يَكُونُ مُنْكِرًا عَلَيْهِ وُقُوعَ مَا يَتَوَقَّعُ وُقُوعَهُ، وَإِنَّمَا هَذَا لِأَنَّ تَرْكَ الْمَفْعُولِ فِي قَوْلِهِ فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ لِكَوْنِهِ مَذْكُورًا وَهُوَ رَيْبُ الْمَنُونِ أَوْلَى مِنْ تَرْكِهِ وَإِرَادَةِ غَيْرِ الْمَذْكُورِ وَهُوَ الْعَذَابُ الثَّانِي: أَتَرَبَّصُ صُرُوفَ الدَّهْرِ لِيَظْهَرَ عَدَمُ تَأْثِيرِهَا فَهُوَ لَمْ يَتَرَبَّصْ بِهِمْ شَيْئًا عَلَى الْوَجْهَيْنِ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَتَرَبَّصُ بَقَاءَهُ بَعْدَهُمْ وَارْتِفَاعَ كَلِمَتِهِ فَلَمْ يَتَرَبَّصْ بِهِمْ شَيْئًا عَلَى الْوُجُوهِ الَّتِي اخْتَرْنَاهَا فَقَالَ: فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ. ثم قال تعالى:

[[سورة الطور (٥٢) : آية ٣٢]]

أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (٣٢)

وَأَمْ هَذِهِ أَيْضًا عَلَى مَا ذَكَرْنَا مُتَّصِلَةٌ تَقْدِيرُهَا أُنْزِلَ عَلَيْهِمْ ذِكْرٌ؟ أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا؟ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَشْيَاءَ إِمَّا أَنْ تَثْبُتَ بِسَمْعٍ وَإِمَّا أَنْ تَثْبُتَ بِعَقْلٍ فَقَالَ هَلْ وَرَدَ أَمْرٌ سَمْعِيٌّ؟ أَمْ عُقُولُهُمْ تَأْمُرُهُمْ بِمَا كَانُوا يَقُولُونَ؟ أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ يَغْتَرُّونَ، وَيَقُولُونَ مَا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ سَمْعًا وَلَا مُقْتَضًى لَهُ عَقْلًا؟ وَالطُّغْيَانُ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ فِي الْعِصْيَانِ وَكَذَلِكَ كُلُّ شَيْءٍ ظَاهِرُهُ مَكْرُوهٌ، قَالَ اللَّه تَعَالَى: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ [الْحَاقَّةِ: ١١] وَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: إِذَا كَانَ الْمُرَادُ مَا ذَكَرْتَ فَلِمَ أَسْقَطَ مَا يُصَدَّرُ بِهِ؟ نَقُولُ لِأَنَّ كَوْنَ مَا يَقُولُونَ بِهِ مُسْنَدًا إِلَى نَقْلٍ مَعْلُومٍ عَدَمُهُ لَا يَنْفِي، وَأَمَّا كَوْنُهُ مَعْقُولًا فَهُمْ كَانُوا يَدَّعُونَ أَنَّهُ مَعْقُولٌ، وَأَمَّا كَوْنُهُمْ طَاغِينَ فَهُوَ حَقٌّ، فَخَصَّ اللَّه تَعَالَى بِالذِّكْرِ مَا قَالُوا بِهِ وَقَالَ اللَّه بِهِ، فَهُمْ قَالُوا نَحْنُ نَتَّبِعُ الْعَقْلَ، واللَّه تَعَالَى قَالَ هُمْ طَاغُونَ فَذَكَرَ الْأَمْرَيْنِ اللَّذَيْنِ وَقَعَ فِيهِمَا الْخِلَافُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ كُلَّ مَا لَا يَكُونُ عَلَى وَفْقِ الْعَقْلِ، لَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ، وَإِنَّمَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ مَا يَجِبُ قَوْلُهُ عَقْلًا، فَهَلْ صَارَ [كُلُّ] وَاجِبٍ عَقْلًا مَأْمُورًا بِهِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مَا الْأَحْلَامُ؟ نَقُولُ جَمْعُ حِلْمٍ وَهُوَ الْعَقْلُ وَهُمَا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، لِأَنَّ الْعَقْلَ يَضْبِطُ الْمَرْءَ فَيَكُونُ كَالْبَعِيرِ الْمَعْقُولِ لَا يَتَحَرَّكُ مِنْ مَكَانِهِ، وَالْحُلْمُ مِنَ الْحِلْمِ وَهُوَ أَيْضًا سَبَبُ وَقَارِ الْمَرْءِ وَثَبَاتِهِ،

<<  <  ج: ص:  >  >>