للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَكَذَلِكَ يُقَالُ لِلْعُقُولِ النُّهَى مِنَ النَّهْيِ وَهُوَ الْمَنْعُ، وَفِيهِ مَعْنًى لَطِيفٌ وَهُوَ أَنَّ الْحُلْمَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ هُوَ مَا يَرَاهُ النَّائِمُ فَيُنْزِلُ وَيَلْزَمُهُ الْغُسْلُ، وَهُوَ سَبَبُ الْبُلُوغِ وَعِنْدَهُ يَصِيرُ الْإِنْسَانُ مُكَلَّفًا، وَكَأَنَّ اللَّه تَعَالَى مِنْ لَطِيفِ حِكْمَتِهِ قَرَنَ الشَّهْوَةَ بِالْعَقْلِ وَعِنْدَ ظُهُورِ الشَّهْوَةِ كَمُلَ الْعَقْلُ فَأَشَارَ إِلَى الْعَقْلِ بِالْإِشَارَةِ إِلَى مَا يُقَارِنُهُ وَهُوَ الْحُلْمُ، لِيَعْلَمَ أَنَّهُ نَذِيرُ كَمَالِ الْعَقْلِ، لَا الْعَقْلُ الَّذِي بِهِ يحترز الإنسان تخطئ الشِّرْكَ وَدُخُولَ النَّارِ، وَعَلَى هَذَا فَفِيهِ تَأْكِيدٌ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ كُلَّ مَعْقُولٍ، بَلْ لَا يَقُولُ إِلَّا مَا يَأْمُرُ بِهِ الْعَقْلُ الرَّزِينُ الَّذِي يُصَحِّحُ التكليف.

المسألة الرابعة: بِهذا إِشَارَةٌ إِلَى مَاذَا؟ نَقُولُ فِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ هَذَا إِشَارَةً مُهِمَّةً، أَيْ بِهَذَا الَّذِي يَظْهَرُ مِنْهُمْ قَوْلًا وَفِعْلًا حَيْثُ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ وَالْأَوْثَانَ وَيَقُولُونَ الْهَذَيَانَ مِنَ الْكَلَامِ الثَّانِي: هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِمْ هُوَ كَاهِنٌ هُوَ شَاعِرٌ هُوَ مَجْنُونٌ الثَّالِثُ: هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى التَّرَبُّصِ فَإِنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا نَتَرَبَّصُ قَالَ اللَّه تَعَالَى أَعُقُولُهُمْ تَأْمُرُهُمْ بِتَرَبُّصِ هَلَاكِهِمْ فَإِنَّ أَحَدًا لَمْ يَتَوَقَّعْ هَلَاكَ نَبِيِّهِ إِلَّا وَهَلَكَ.

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: هَلْ يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ (أَمْ) فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بِمَعْنَى بَلْ؟ نَقُولُ نَعَمْ، تَقْدِيرُهُ يَقُولُونَ: إِنَّهُ شَاعِرٌ قَوْلًا بَلْ يَعْتَقِدُونَهُ عَقْلًا وَيَدْخُلُ فِي عُقُولِهِمْ ذَلِكَ، أَيْ لَيْسَ ذَلِكَ قَوْلًا مِنْهُمْ مِنْ غَيْرِ عَقْلٍ بَلْ يَعْتَقِدُونَ كَوْنَهُ كَاهِنًا وَمَجْنُونًا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ (بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ) ، لَكِنْ بَلْ هَاهُنَا وَاضِحٌ وَفِي قَوْلِهِ بَلْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ خفي ثم قال تعالى:

[[سورة الطور (٥٢) : آية ٣٣]]

أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (٣٣)

وَهُوَ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ [الطُّورِ: ٣٠] وَتَقْدِيرُهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَتَقُولُونَ كَاهِنٌ، أَمْ تَقُولُونَ شَاعِرٌ، أَمْ تَقَوَّلَهُ ثُمَّ قال لبطلان جميع الأقسام:

[[سورة الطور (٥٢) : آية ٣٤]]

فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (٣٤)

أَيْ إِنْ كَانَ هُوَ شَاعِرًا فَفِيكُمُ الشُّعَرَاءُ الْبُلَغَاءُ والكهنة الأذكياء ومن يرتجل الخطب والقصائر وَيَقُصُّ الْقَصَصَ وَلَا يَخْتَلِفُ/ النَّاقِصُ وَالزَّائِدُ فَلْيَأْتُوا بِمِثْلِ مَا أَتَى بِهِ، وَالتَّقَوُّلُ يُرَادُ بِهِ الْكَذِبُ. وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى مَعْنًى لَطِيفٍ وَهُوَ أَنَّ التَّفَعُّلَ لِلتَّكَلُّفِ وِإِرَاءَةِ الشَّيْءِ وَهُوَ لَيْسَ عَلَى مَا يُرَى يُقَالُ تَمَرَّضَ فُلَانٌ أَيْ لَمْ يَكُنْ مَرِيضًا وَأَرَى مِنْ نَفْسِهِ الْمَرَضَ وَحِينَئِذٍ كَأَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ كَذِبٌ وَلَيْسَ بِقَوْلٍ إِنَّمَا هُوَ تَقَوُّلُ صُورَةِ الْقَوْلِ وَلَيْسَ فِي الْحَقِيقَةِ بِهِ لِيَعْلَمَ أَنَّ الْمُكَذِّبَ هُوَ الصَّادِقُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ بَيَانُ هَذَا أَنَّهُمْ كَانُوا فِي زَمَانِ نُزُولِ الْوَحْيِ وَحُصُولِ الْمُعْجِزَةِ كَانُوا يُشَاهِدُونَهَا وَكَانَ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَشْهَدُوا لَهُ عِنْدَ غَيْرِهِمْ وَيَكُونُوا كَالنُّجُومِ لِلْمُؤْمِنِينَ كَمَا كَانَتِ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ وَهُمْ لَمْ يَكُونُوا كَذَلِكَ بَلْ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَكُونُوا أَيْضًا وَهُوَ أَنْ يَكُونُوا مِنْ آحَادِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ لَمْ يَشْهَدُوا تِلْكَ الْأُمُورَ وَلَمْ يَظْهَرِ الْأَمْرُ عِنْدَهُمْ ذَلِكَ الظُّهُورِ.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَلْيَأْتُوا الْفَاءُ لِلتَّعْقِيبِ أَيْ إِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَيَجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ مَا أَتَى بِهِ لِيُصَحِّحَ كَلَامَهُمْ وَيُبْطِلَ كَلَامَهُ وَفِيهِ مَبَاحِثُ:

الْأَوَّلُ: قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فَلْيَأْتُوا أَمْرُ تعجيز يقول الْقَائِلِ لِمَنْ يَدَّعِي أَمْرًا أَوْ فِعْلًا وَيَكُونُ غرضه إظهار

<<  <  ج: ص:  >  >>