للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

يَقُولُ الْمَرْءُ لِغَيْرِهِ: أَكَلْتُ خُبْزًا أَوْ تَمْرًا وَهُوَ لَا يَشُكُّ أَنَّهُ أَكَلَ أَحَدَهُمَا إِذَا أراد أن يُبَيِّنَهُ لِصَاحِبِهِ. وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ فَهِيَ كالحجارة، ومنها ما هو أَشَدُّ قَسْوَةً مِنَ الْحِجَارَةِ، وَرَابِعُهَا: أَنَّ الْآدَمِيِّينَ إِذَا/ اطَّلَعُوا عَلَى أَحْوَالِ قُلُوبِهِمْ قَالُوا: إِنَّهَا كَالْحِجَارَةِ أَوْ هِيَ أَشَدُّ قَسْوَةً مِنَ الْحِجَارَةِ وَهُوَ الْمُرَادُ فِي قَوْلِهِ: فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى [النَّجْمِ: ٩] أَيْ فِي نَظَرِكُمْ وَاعْتِقَادِكُمْ. وَخَامِسُهَا: أَنَّ كَلِمَةَ «أَوْ» بِمَعْنَى بَلْ وَأَنْشَدُوا:

فو الله مَا أَدْرِي أَسَلْمَى تَغَوَّلَتْ ... أَمِ الْقَوْمُ أَوْ كُلٌّ إِلَيَّ حَبِيبُ

قَالُوا: أَرَادَ بَلْ كُلٌّ. وَسَادِسُهَا: أَنَّهُ عَلَى حَدِّ قَوْلِكَ مَا آكُلُ إِلَّا حُلْوًا أَوْ حَامِضًا أَيْ طَعَامِي لَا يَخْرُجُ عَنْ هَذَيْنِ، بَلْ يَتَرَدَّدُ عَلَيْهِمَا، وَبِالْجُمْلَةِ: فَلَيْسَ الْغَرَضُ إِيقَاعَ التَّرَدُّدِ بَيْنَهُمَا، بَلْ نَفْيَ غَيْرِهِمَا. وَسَابِعُهَا: أَنَّ «أَوْ» حَرْفُ إِبَاحَةٍ كَأَنَّهُ قِيلَ بِأَيِّ هَذَيْنِ شَبَّهْتَ قُلُوبَهُمْ كَانَ صِدْقًا كَقَوْلِكَ: جَالِسِ الْحَسَنَ أَوِ ابْنَ سِيرِينَ أَيْ أَيَّهُمَا جَالَسْتَ كُنْتَ مُصِيبًا وَلَوْ جَالَسْتَهُمَا مَعًا كُنْتَ مُصِيبًا أَيْضًا.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : «أَشُدُّ» مَعْطُوفٌ عَلَى الْكَافِ، إِمَّا عَلَى معنى أو مثل: «أَشَدُّ قَسْوَةً» فَحُذِفَ الْمُضَافُ وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَقَامَهُ وَإِمَّا عَلَى أَوْ هِيَ أَنْفُسُهَا أَشَدُّ قَسْوَةً.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِنَّمَا وَصَفَهَا بِأَنَّهَا أَشَدُّ قَسْوَةً لِوُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ الْحِجَارَةَ لَوْ كَانَتْ عاقلة ولقيتها هذه الآية لقبلنها كَمَا قَالَ: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [الْحَشْرِ: ٢١] . وَثَانِيهَا:

أَنَّ الْحِجَارَةَ لَيْسَ فِيهَا امْتِنَاعٌ مِمَّا يَحْدُثُ فِيهَا بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنْ كَانَتْ قَاسِيَةً بَلْ هِيَ مُنْصَرِفَةٌ عَلَى مُرَادِ اللَّهِ غَيْرُ مُمْتَنِعَةٍ مِنْ تَسْخِيرِهِ، وَهَؤُلَاءِ مَعَ مَا وَصَفْنَا مِنْ أَحْوَالِهِمْ فِي اتِّصَالِ الْآيَاتِ عِنْدَهُمْ وَتَتَابُعِ النِّعَمِ مِنَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ يَمْتَنِعُونَ مِنْ طَاعَتِهِ وَلَا تَلِينُ قُلُوبُهُمْ لِمَعْرِفَةِ حَقِّهِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ [الْأَنْعَامِ: ٣٨] إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ [الْأَنْعَامِ: ٣٩] كَأَنَّ الْمَعْنَى أَنَّ الْحَيَوَانَاتِ مِنْ غَيْرِ بَنِي آدَمَ أُمَمٌ سُخِّرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا لِشَيْءٍ وَهُوَ مُنْقَادٌ لِمَا أُرِيدَ مِنْهُ وَهَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ يَمْتَنِعُونَ عَمَّا أَرَادَ اللَّهُ مِنْهُمْ. وَثَالِثُهَا: أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً، لِأَنَّ الْأَحْجَارَ يُنْتَفَعُ بِهَا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، وَيَظْهَرُ مِنْهَا الْمَاءُ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ، أَمَّا قُلُوبُ هَؤُلَاءِ فَلَا نَفْعَ فِيهَا الْبَتَّةَ وَلَا تَلِينُ لِطَاعَةِ اللَّهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ الْقَاضِي: إِنْ كَانَ تَعَالَى هُوَ الْخَالِقَ فِيهِمُ الدَّوَامَ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ، فَكَيْفَ يَحْسُنُ ذَمُّهُمْ بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ وَلَوْ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ خَاطَبَهُمْ فَقَالُوا لَهُ: إِنَّ الَّذِي خَلَقَ الصَّلَابَةَ فِي الْحِجَارَةِ هُوَ الَّذِي خَلَقَ فِي قُلُوبِنَا الْقَسْوَةَ وَالْخَالِقُ فِي الْحِجَارَةِ انْفِجَارَ الْأَنْهَارِ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَنْقُلَنَا عَمَّا نَحْنُ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ بِخَلْقِ الْإِيمَانِ فِينَا، فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ فَعُذْرُنَا ظَاهِرٌ لَكَانَتْ حُجَّتُهُمْ عَلَيْهِ أَوْكَدَ مِنْ حُجَّتِهِ عَلَيْهِمْ، وَهَذَا النَّمَطُ مِنَ الْكَلَامِ قَدْ تَقَدَّمَ تَقْرِيرًا وَتَفْرِيعًا مِرَارًا وَأَطْوَارًا.

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: إِنَّمَا قَالَ: أَشَدُّ قَسْوَةً وَلَمْ يَقُلْ أَقْسَى، لِأَنَّ ذَلِكَ أَدَلُّ عَلَى فَرْطِ الْقَسْوَةِ وَوَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ لَا يَقْصِدَ مَعْنَى الْأَقْسَى، وَلَكِنْ قَصَدَ وَصْفَ الْقَسْوَةِ بِالشِّدَّةِ كَأَنَّهُ قِيلَ: اشْتَدَّتْ قَسْوَةُ الْحِجَارَةِ وَقُلُوبُهُمْ أَشَدُّ قَسْوَةً، وَقُرِئَ «قَسَاوَةً» وَتُرِكَ ضَمِيرُ الْمُفَضَّلِ عَلَيْهِ لِعَدَمِ الْإِلْبَاسِ/ كَقَوْلِكَ: زَيْدٌ كَرِيمٌ وَعَمْرٌو أَكْرَمُ. ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَضَّلَ الْحِجَارَةَ عَلَى قُلُوبِهِمْ بِأَنْ بَيَّنَ أَنَّ الْحِجَارَةَ قَدْ يَحْصُلُ مِنْهَا ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ مِنَ الْمَنَافِعِ، وَلَا يُوجَدُ فِي قُلُوبِ هَؤُلَاءِ شَيْءٌ مِنَ الْمَنَافِعِ. فَأَوَّلُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَفِيهِ مَسَائِلُ: