للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْعَامِلُ فِي إِذْ مَا قَبْلَهَا أَوْ مَا بَعْدَهَا فِيهِ وَجْهَانِ، فَإِنْ قُلْنَا ما قبلها ففيه احتمالان:

أظهرهما رَآهُ [النجم: ١٣] أَيْ رَآهُ وَقْتَ مَا يَغْشَى السِّدْرَةَ الَّذِي يَغْشَى، وَالِاحْتِمَالُ الْآخَرُ الْعَامِلُ فِيهِ الْفِعْلُ الَّذِي فِي النَّزْلَةِ، تَقْدِيرُهُ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى تِلْكَ النَّزْلَةُ وَقْتَ مَا يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى، أي نزوله لم يكن إلا بعد ما ظهرت العجائب عند السدرة وغشيها ما غشى فَحِينَئِذٍ نَزَلَ مُحَمَّدٌ نَزْلَةً إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَمْ يَرْجِعْ مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ، وَإِنْ قُلْنَا مَا بَعْدَهُ، فَالْعَامِلُ فِيهِ مَا زاغَ الْبَصَرُ [النَّجْمِ: ١٧] أَيْ مَا زَاغَ بَصَرُهُ وَقْتَ غَشَيَانِ السِّدْرَةِ مَا غَشِيَهَا، وَسَنَذْكُرُهُ عِنْدَ تَفْسِيرِ الْآيَةِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَدْ ذَكَرْتُ أَنَّ فِي بَعْضِ الْوُجُوهِ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى هِيَ الْحَيْرَةُ الْقُصْوَى، وَقَوْلُهُ يَغْشَى السِّدْرَةَ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ يُنَادِي بِالْبُطْلَانِ، فَهَلْ يُمْكِنُ تَصْحِيحُهُ؟ نَقُولُ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ مِنَ الْغَشَيَانِ غَشَيَانُ حَالَةٍ عَلَى حَالَةٍ، أَيْ وَرَدَ عَلَى حَالَةِ الْحَيْرَةِ حَالَةُ الرُّؤْيَةِ وَالْيَقِينِ، وَرَأَى مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند ما حَارَ الْعَقْلُ مَا رَآهُ وَقْتَ مَا طَرَأَ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ مَا طَرَأَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَرَحْمَتِهِ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّحِيحُ، فَإِنَّ النَّقْلَ الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ السِّدْرَةَ نَبْقُهَا كَقِلَالِ هَجَرَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا شَجَرَةٌ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مَا الَّذِي غَشَى السِّدْرَةَ؟ نَقُولُ فِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: فَرَاشٌ أَوْ جَرَادٌ مِنْ ذَهَبٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِدَلِيلٍ سَمْعِيٍّ، فَإِنْ صَحَّ فِيهِ خَبَرٌ فَلَا يَبْعُدُ مِنْ جَوَازِ التَّأْوِيلِ، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ فَلَا وَجْهَ لَهُ الثَّانِي:

الَّذِي يَغْشَى السِّدْرَةَ مَلَائِكَةٌ يَغْشُونَهَا كَأَنَّهُمْ طُيُورٌ، وَهُوَ قَرِيبٌ، لِأَنَّ الْمَكَانَ مَكَانٌ لَا يَتَعَدَّاهُ الْمَلَكُ، فَهُمْ يَرْتَقُونَ إِلَيْهِ مُتَشَرِّفِينَ بِهِ مُتَبَرِّكِينَ زَائِرِينَ، كَمَا يَزُورُ النَّاسُ الْكَعْبَةَ فَيَجْتَمِعُونَ عَلَيْهَا الثَّالِثُ: أَنْوَارُ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ ظَاهِرٌ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا وَصَلَ إِلَيْهَا تَجَلَّى رَبُّهُ لَهَا، كَمَا تَجَلَّى لِلْجَبَلِ، وَظَهَرَتِ الْأَنْوَارُ، لَكِنَّ السِّدْرَةَ كَانَتْ أَقْوَى مِنَ الْجَبَلِ وَأَثْبَتُ، فَجُعِلَ الْجَبَلُ دَكًّا، وَلَمْ تَتَحَرَّكِ الشَّجَرَةُ، وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا، وَلَمْ يَتَزَلْزَلْ مُحَمَّدٌ الرَّابِعُ: هُوَ مُبْهَمٌ لِلتَّعْظِيمِ، يَقُولُ الْقَائِلُ: رَأَيْتُ مَا رَأَيْتُ عِنْدَ الْمَلِكِ، يُشِيرُ إِلَى الْإِظْهَارِ مِنْ وَجْهٍ، وَإِلَى الْإِخْفَاءِ مِنْ وَجْهٍ.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: يَغْشَى يَسْتُرُ، وَمِنْهُ الْغَوَاشِي أَوْ مِنْ مَعْنَى الْإِتْيَانِ، يُقَالُ فَلَا يَغْشَانِي كُلَّ وَقْتٍ، أَيْ يَأْتِينِي، وَالْوَجْهَانِ مُحْتَمَلَانِ، وَعَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: اللَّهُ يَأْتِي ويذهب، فالإتيان أقرب. / ثم قال تعالى:

[[سورة النجم (٥٣) : آية ١٧]]

مَا زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (١٧)

وَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اللَّامُ فِي الْبَصَرُ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: الْمَعْرُوفُ وَهُوَ بَصَرُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ مَا زَاغَ بَصَرُ مُحَمَّدٍ، وَعَلَى هَذَا فَعَدَمُ الزَّيْغِ عَلَى وُجُوهٍ، إِنْ قُلْنَا الْغَاشِي لِلسِّدْرَةِ هُوَ الْجَرَادُ وَالْفَرَاشُ، فَمَعْنَاهُ لم يتلفت إِلَيْهِ وَلَمْ يَشْتَغِلْ بِهِ، وَلَمْ يَقْطَعْ نَظَرَهُ عَنِ الْمَقْصُودِ، وَعَلَى هَذَا فَغَشِيَانُ الْجَرَادِ وَالْفَرَاشِ يَكُونُ ابْتِلَاءً، وَامْتِحَانًا لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَإِنْ قُلْنَا أَنْوَارُ اللَّهِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: لَمْ يَلْتَفِتْ يَمْنَةً وَيَسْرَةً، وَاشْتَغَلَ بِمُطَالَعَتِهَا وَثَانِيهِمَا:

مَا زَاغَ الْبَصَرُ بِصَعْقَةٍ بِخِلَافِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَإِنَّهُ قَطَعَ النَّظَرَ وَغُشِيَ عَلَيْهِ، وَفِي الْأَوَّلِ: بَيَانُ أَدَبِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي الثَّانِي: بَيَانُ قُوَّتِهِ الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي اللَّامِ أَنَّهُ لِتَعْرِيفِ الْجِنْسِ، أَيْ مَا زَاغَ بَصَرٌ أَصْلًا فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ لِعَظَمَةِ الْهَيْبَةِ، فَإِنْ قِيلَ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَقَالَ مَا زَاغَ بَصَرٌ، لِأَنَّهُ أَدَلُّ عَلَى الْعُمُومِ، لَأَنَّ النَّكِرَةَ فِي مَعْرِضِ النَّفْيِ تَعُمُّ، نَقُولُ هُوَ كَقَوْلِهِ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ [الْأَنْعَامِ: ١٠٣] وَلَمْ يَقُلْ لَا يُدْرِكُهُ بَصَرٌ.

<<  <  ج: ص:  >  >>