للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بَلَّغَتْ فَقَدْ أَتَيْتَ بِمَا عَلَيْكَ مِنَ الْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ الَّتِي أُمِرْتَ بِهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ [النَّحْلِ: ١٢٥] وَتَوَلَّ إِذَا لَمْ تَقْدِرْ ثَانِيهِمَا: (مَا) اسْتِفْهَامِيَّةٌ، وَمَعْنَى الْآيَاتِ حِينَئِذٍ أَنَّكَ أَتَيْتَ بِمَا عَلَيْكَ مِنَ الدَّعْوَى وَإِظْهَارِ الْآيَةِ عَلَيْهَا وَكَذَّبُوا فَأَنْذَرْتَهُمْ بِمَا جَرَى عَلَى الْمُكَذِّبِينَ فَلَمْ يُفِدْهُمْ فَهَذِهِ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ وَمَا الَّذِي تُغْنِي النُّذُرُ غَيْرَ هذا فلم يبق عليك شيء آخر.

[[سورة القمر (٥٤) : آية ٦]]

فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ (٦)

قَوْلُهُ تَعَالَى: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ المفسرين يقولون إلى قوله: فَتَوَلَّ مَنْسُوخٌ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ لَا تناظرهم بالكلام.

ثم قال تعالى: يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ قَدْ ذَكَرْنَا أَيْضًا أَنَّ مَنْ يَنْصَحْ شَخْصًا وَلَا يُؤَثِّرْ فِيهِ النُّصْحُ يُعْرِضْ عَنْهُ وَيَقُولُ مَعَ غَيْرِهِ: مَا فِيهِ نُصْحُ الْمُعْرِضِ عَنْهُ، وَيَكُونُ فِيهِ قَصْدُ إِرْشَادِهِ أيضا فقال بعد ما قال: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ ... يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ [المعارج: ٤٣] لِلتَّخْوِيفِ، وَالْعَامِلُ/ فِي: يَوْمَ هُوَ مَا بَعْدَهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ وَالدَّاعِي مُعَرَّفٌ كالمنادي في قوله: يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ [ق: ٤١] لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ قَدْ أَخْبَرَ عَنْهُ، فَقِيلَ: إِنَّ مُنَادِيًا يُنَادِي وَدَاعِيًا يَدْعُو وَفِي الدَّاعِي وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّهُ إِسْرَافِيلُ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ جِبْرِيلُ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ مَلَكٌ مُوَكَّلٌ بِذَلِكَ وَالتَّعْرِيفُ حِينَئِذٍ لَا يَقْطَعُ حَدَّ الْعِلْمِيَّةِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ كَقَوْلِنَا: جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: الرَّجُلُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ أَيْ مُنْكَرٍ وَهُوَ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا أَحَدُهَا: إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ فِي يَوْمِنَا هَذَا لِأَنَّهُمْ أَنْكَرُوهُ أَيْ يَوْمَ يَدْعُو الدَّاعِي إِلَى الشَّيْءِ الَّذِي أَنْكَرُوهُ يَخْرُجُونَ ثَانِيهَا: نُكُرٍ أَيْ مُنْكَرٍ يَقُولُ: ذَلِكَ الْقَائِلُ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ أَيْ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ لَا يُوجَدَ يُقَالُ: فُلَانٌ يَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، وَعَلَى هَذَا فَهُوَ عِنْدَهُمْ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَقَعَ لِأَنَّهُ يُرْدِيهِمْ فِي الْهَاوِيَةِ، فَإِنْ قِيلَ: مَا ذَلِكَ الشَّيْءُ النُّكُرُ؟ نَقُولُ: الْحِسَابُ أَوِ الْجَمْعُ لَهُ أَوِ النَّشْرُ لِلْجَمْعِ، وَهَذَا أَقْرَبُ، فَإِنْ قِيلَ: النَّشْرُ لَا يَكُونُ مُنْكَرًا فَإِنَّهُ إِحْيَاءٌ وَلِأَنَّ الْكَافِرَ مِنْ أَيْنَ يَعْرِفُ وَقْتَ النَّشْرِ وَمَا يَجْرِي عَلَيْهِ لِيُنْكِرَهُ؟ نَقُولُ: يعرف ويعلم بدليل قوله تعالى عنهم: يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا [يس: ٥٢] ثم قال تعالى:

[[سورة القمر (٥٤) : آية ٧]]

خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ (٧)

وَفِيهِ قِرَاءَاتٌ خَاشِعًا وَخَاشِعَةً وَخُشَّعًا، فَمَنْ قَرَأَ خَاشِعًا عَلَى قَوْلِ الْقَائِلِ: يَخْشَعُ أَبْصَارُهُمْ عَلَى تَرْكِ التَّأْنِيثِ لِتَقَدُّمِ الْفِعْلِ وَمَنْ قَرَأَ خاشعة على قوله: تخشع أبصارهم وَمَنْ قَرَأَ خُشَّعًا فَلَهُ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ:

يَخْشَعْنَ أَبْصَارُهُمْ عَلَى طَرِيقَةِ مَنْ يَقُولُ: أَكَلُونِي الْبَرَاغِيثُ ثَانِيهَا: فِي: خُشَّعاً ضَمِيرُ أَبْصَارُهُمْ بَدَلٌ عَنْهُ، تَقْدِيرُهُ يَخْشَعُونَ أَبْصَارُهُمْ عَلَى بَدَلِ الِاشْتِمَالِ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: أَعْجَبُونِي حُسْنُهُمْ. ثَالِثُهَا: فِيهِ فِعْلٌ مُضْمَرٌ يُفَسِّرُهُ يَخْرُجُونَ تَقْدِيرُهُ يَخْرُجُونَ خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ عَلَى بَدَلِ الِاشْتِمَالِ وَالصَّحِيحُ خَاشِعًا، رُوِيَ أَنَّ مُجَاهِدًا رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَنَامِهِ فَقَالَ لَهُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ أَوْ خَاشِعًا أَبْصَارُهُمْ؟ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: خَاشِعًا، وَلِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ وَجْهٌ آخَرُ أَظْهَرُ مِمَّا قَالُوهُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ خُشَّعًا مَنْصُوبًا عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِقَوْلِهِ: يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ خُشَّعًا أَيْ يَدْعُو هَؤُلَاءِ، فَإِنْ قِيلَ: هَذَا فَاسِدٌ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ التَّخْصِيصَ لَا فَائِدَةَ فِيهِ لِأَنَّ الدَّاعِيَ يَدْعُو كُلَّ أَحَدٍ، ثَانِيهَا:

قَوْلُهُ: يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ بَعْدَ الدُّعَاءِ فَيَكُونُونَ خُشَّعًا قَبْلَ الْخُرُوجِ وَإِنَّهُ بَاطِلٌ، ثَالِثُهَا: قِرَاءَةُ خَاشِعًا تُبْطِلُ هَذَا، نَقُولُ أَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ فَهُوَ أَنْ يُقَالَ قَوْلُهُ: إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ يَدْفَعُ ذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ لَا يُدْعَى إِلَى

<<  <  ج: ص:  >  >>