للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي قَوْمِ نُوحٍ: فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ [الْأَعْرَافِ: ٦٤] وَقَالَ فِي عَادٍ: وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ [هُودٍ: ٥٩] وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ [الشُّعَرَاءِ: ١٠٥] فَإِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُمْ كَذَّبُوا وَقَالُوا مَا يُفْضِي إِلَى تَكْذِيبِ جَمِيعِ الْمُرْسَلِينَ، وَلِهَذَا ذَكَرَهُ بِلَفْظِ الْجَمْعِ الْمُعَرَّفِ لِلِاسْتِغْرَاقِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ هُنَاكَ عَنْ نُوحٍ: رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ [الشُّعَرَاءِ: ١١٧] وَلَمْ يَقُلْ: كَذَّبُوا رُسُلَكَ إِشَارَةً إِلَى مَا صَدَرَ مِنْهُمْ حَقِيقَةً لَا أَنَّ مَا أَلْزَمَهُمْ لَزِمَهُ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَلَمَّا سَبَقَ قِصَّةُ ثَمُودَ ذَكَرَ رَسُولَيْنِ وَرَسُولُهُمْ ثَالِثُهُمْ قَالَ:

كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ هَذَا كُلُّهُ إِذَا قُلْنَا إِنَّ النُّذُرَ جَمْعُ نَذِيرٍ بِمَعْنَى مُنْذِرٍ، أَمَّا إِذَا قُلْنَا إِنَّهَا الْإِنْذَارَاتُ فَنَقُولُ: قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٍ لَمْ تَسْتَمِرَّ الْمُعْجِزَاتُ الَّتِي ظَهَرَتْ فِي زَمَانِهِمْ، وَأَمَّا ثَمُودُ فَأُنْذِرُوا وَأُخْرِجَ لَهُمْ نَاقَةٌ مِنْ صَخْرَةٍ وَكَانَتْ تَدُورُ بَيْنَهُمْ وَكَذَّبُوا فَكَانَ تَكْذِيبُهُمْ بِإِنْذَارَاتٍ وَآيَاتٍ ظَاهِرَةٍ فَصَرَّحَ بِهَا، وقوله: فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا/ واحِداً نَتَّبِعُهُ [القمر: ٢٤] يُؤَيِّدُ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ، لِأَنَّ مَنْ يَقُولُ لَا أَتَّبِعُ بَشَرًا مِثْلِي وَجَمِيعُ الْمُرْسَلِينَ مِنَ الْبَشَرِ يَكُونُ مُكَذِّبًا لِلرُّسُلِ وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ بِالنُّذُرِ يُؤَيِّدُ الْوَجْهَ الثَّانِيَ لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فِي تَكْذِيبِ الرُّسُلِ عَدَّى التَّكْذِيبَ بِغَيْرِ حرف فقال: فَكَذَّبُوهُ [الأعراف: ٦٤] وكَذَّبُوا (....) رُسُلَنا [غافر: ٧٠] فَكَذَّبُوا عَبْدَنا [القمر: ٩] وكَذَّبُونِ [المؤمنون: ٢٦] وقال: كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ [الأنفال: ٥٤] وبِآياتِنا [البقرة: ٣٩] فَعَدَّى بِحَرْفٍ لِأَنَّ التَّكْذِيبَ هُوَ النِّسْبَةُ إِلَى الْكَذِبِ وَالْقَائِلُ هُوَ الَّذِي يَكُونُ كَاذِبًا حَقِيقَةً وَالْكَلَامُ وَالْقَوْلُ يُقَالُ فِيهِ كَاذِبٌ مَجَازًا وَتَعَلُّقُ التَّكْذِيبِ بِالْقَائِلِ أَظْهَرُ فَيَسْتَغْنِي عَنِ الْحَرْفِ بِخِلَافِ الْقَوْلِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ وَبَيَّنَّاهُ بَيَانًا شَافِيًا.

[[سورة القمر (٥٤) : آية ٢٤]]

فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (٢٤)

وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: زَيْدًا ضَرَبْتُهُ وَزَيْدٌ ضَرْبَتُهُ كِلَاهُمَا جَائِزٌ وَالنَّصْبُ مُخْتَارٌ فِي مَوَاضِعَ مِنْهَا هَذَا الْمَوْضِعُ وَهُوَ الَّذِي يَكُونُ مَا يَرِدُ عَلَيْهِ النَّصْبُ وَالرَّفْعُ بَعْدَ حَرْفِ الِاسْتِفْهَامِ، وَالسَّبَبُ فِي اخْتِيَارِ النَّصْبِ أَمْرٌ مَعْقُولٌ وَهُوَ أَنَّ الْمُسْتَفْهِمَ يَطْلُبُ مِنَ الْمَسْئُولِ أَنْ يَجْعَلَ مَا ذَكَرَهُ بَعْدَ حَرْفِ الِاسْتِفْهَامِ مَبْدَأٌ لِكَلَامِهِ وَيُخْبِرُ عَنْهُ، فَإِذَا قَالَ: أَزَيْدٌ عِنْدَكَ مَعْنَاهُ أَخْبِرْنِي عَنْ زَيْدٍ وَاذْكُرْ لِي حَالَهُ، فَإِذَا انْضَمَّ إِلَى هَذِهِ الْحَالَةِ فِعْلٌ مَذْكُورٌ تَرَجَّحَ جَانِبُ النَّصْبِ فَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: أَزَيْدًا ضَرَبْتَهُ وَإِنْ لَمْ يَجِبْ فَالْأَحْسَنُ ذَلِكَ فَإِنْ قِيلَ: من قرأ أبشر مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ كَيْفَ تَرَكَ الْأَجْوَدَ؟

نَقُولُ: نَظَرًا إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقالُوا إِذْ مَا بعد القول لا يكون إلا جملة وَالِاسْمِيَّةُ أَوْلَى وَالْأَوْلَى أَقْوَى وَأَظْهَرُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِذَا كَانَ بَشَرًا مَنْصُوبًا بِفِعْلٍ، فَمَا الْحِكْمَةُ فِي تَأَخُّرِ الْفِعْلِ فِي الظَّاهِرِ؟ نَقُولُ: قَدْ تَقَدَّمَ مِرَارًا أَنَّ الْبَلِيغَ يُقَدِّمُ فِي الْكَلَامِ مَا يَكُونُ تَعَلُّقُ غَرَضِهِ بِهِ أَكْثَرَ وَهُمْ كَانُوا يُرِيدُونَ تَبْيِينَ كَوْنِهِمْ مُحِقِّينَ فِي تَرْكِ الِاتِّبَاعِ فَلَوْ قَالُوا: أَنَتَّبِعُ بَشَرًا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ نَعَمِ اتَّبِعُوهُ وَمَاذَا يَمْنَعُكُمْ مِنِ اتِّبَاعِهِ، فَإِذَا قَدَّمُوا حَالَهُ وَقَالُوا هُوَ نَوْعُنَا بَشَرٌ وَمِنْ صِنْفِنَا رَجُلٌ لَيْسَ غَرِيبًا نَعْتَقِدُ فِيهِ أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا لَا نَعْلَمُ أَوْ يَقْدِرُ مَا لَا نَقْدِرُ وَهُوَ وَاحِدٌ وَحِيدٌ وَلَيْسَ لَهُ جُنْدٌ وَحَشَمٌ وَخَيْلٌ وَخَدَمٌ فَكَيْفَ نَتَّبِعُهُ، فَيَكُونُونَ قَدْ قَدَّمُوا الْمُوجِبَ لِجَوَازِ الِامْتِنَاعِ مِنْ الِاتِّبَاعِ، وَاعْلَمْ أَنَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِشَارَاتٍ إِلَى ذَلِكَ أَحَدُهَا: نَكَّرُوهُ حَيْثُ قَالُوا أَبَشَراً وَلَمْ يَقُولُوا: أَنَتَّبِعُ صَالِحًا أَوِ الرَّجُلَ الْمُدَّعِيَ النُّبُوَّةَ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْمُعَرَّفَاتِ وَالتَّنْكِيرُ تَحْقِيرٌ ثَانِيهَا: قَالُوا أَبَشَرًا وَلَمْ يَقُولُوا أَرَجُلًا ثَالِثُهَا: قَالُوا مِنَّا وَهُوَ يَحْمِلُ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا مِنْ صِنْفِنَا لَيْسَ غَرِيبًا، وَثَانِيهِمَا مِنَّا أَيْ تَبَعَنَا يَقُولُ الْقَائِلُ لِغَيْرِهِ أَنْتَ مِنَّا فَيَتَأَذَّى السَّامِعُ وَيَقُولُ: لَا بَلْ أَنْتَ مِنَّا وَلَسْتُ أَنَا مِنْكُمْ، وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ وَالْبَعْضُ يَتْبَعُ الْكُلَّ لَا الْكُلُّ يَتْبَعُ الْبَعْضَ رَابِعُهَا: واحِداً

<<  <  ج: ص:  >  >>