للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَاحِدٍ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا يَغْلِبُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَالَ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ الْجُمَحِيُّ وَهَذَا فِيهِ مَعْنًى لَطِيفٌ وَهُوَ أَنَّهُمُ ادَّعَوْا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ غَالِبٌ، واللَّه رَدَّ عَلَيْهِمْ بِأَجْمَعِهِمْ بِقَوْلِهِ:

[[سورة القمر (٥٤) : آية ٤٥]]

سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (٤٥)

وَهُوَ أَنَّهُمُ ادَّعَوُا الْقُوَّةَ الْعَامَّةَ بِحَيْثُ يَغْلِبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واللَّه تَعَالَى بَيَّنَ ضَعْفَهُمُ الظَّاهِرَ الَّذِي يَعُمُّهُمْ جَمِيعَهُمْ بِقَوْلِهِ: وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ وَحِينَئِذٍ يَظْهَرُ سُؤَالٌ وَهُوَ أَنَّهُ قال: يُوَلُّونَ الدُّبُرَ وَلَمْ يَقُلْ: يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ.

وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ [آلِ عِمْرَانَ: ١١١] وَقَالَ: وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ [الْأَحْزَابِ: ١٥] وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ [الْأَنْفَالِ: ١٥] فَكَيْفَ تَصْحِيحُ الْإِفْرَادِ وَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَوَاضِعِ؟ نَقُولُ: أَمَّا التَّصْحِيحُ فَظَاهِرٌ لِأَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: فَعَلُوا كَقَوْلِهِ فَعَلَ هَذَا وَفَعَلَ ذَاكَ وَفَعَلَ الآخر. قالوا: وفي الْجَمْعِ تَنُوبُ مَنَابَ الْوَاوَاتِ الَّتِي فِي الْعَطْفِ، وقوله: يُوَلُّونَ بمثابة يول هذا/ الدبر، ويول ذاك ويول الْآخَرُ أَيْ كُلُّ وَاحِدٍ يُوَلِّي دُبُرَهُ، وَأَمَّا الْفَرْقُ فَنَقُولُ اقْتِضَاءُ أَوَاخِرِ الْآيَاتِ حُسْنَ الْإِفْرَادِ، فقوله: يُوَلُّونَ الدُّبُرَ إِفْرَادُهُ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُمْ فِي التَّوْلِيَةِ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ، فَلَا يَتَخَلَّفُ أَحَدٌ عَنِ الْجَمْعِ وَلَا يَثْبُتُ أَحَدٌ لِلزَّحْفِ فَهُمْ كَانُوا فِي التَّوْلِيَةِ كَدُبُرٍ وَاحِدٍ، وَأَمَّا فِي قَوْلِهِ: فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ أَيْ كُلُّ وَاحِدٍ يُوجَدُ بِهِ يَنْبَغِي أَنْ يَثْبُتَ وَلَا يُوَلِّيَ دُبُرَهُ، فَلَيْسَ الْمَنْهِيُّ هُنَاكَ تَوْلِيَتَهُمْ بِأَجْمَعِهِمْ بَلِ الْمَنْهِيُّ أَنْ يُوَلِّيَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ دُبُرَهُ، فَكُلُّ أَحَدٍ مَنْهِيٌّ عَنْ تَوْلِيَةِ دُبُرِهِ، فَجَعَلَ كُلَّ وَاحِدٍ بِرَأْسِهِ فِي الْخِطَابِ ثُمَّ جَمَعَ الْفِعْلَ بِقَوْلِهِ: فَلا تُوَلُّوهُمُ وَلَا يَتِمُّ إِلَّا بِقَوْلِهِ: الْأَدْبارَ وَكَذَلِكَ في قوله: وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ [الأحزاب: ١٥] أَيْ كُلُّ وَاحِدٍ قَالَ: أَنَا أَثْبُتُ وَلَا أُوَلِّي دُبُرِي، وَأَمَّا فِي قَوْلِهِ: لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ [الْحَشْرِ: ١٢] فَإِنَّ الْمُرَادَ الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ وَعَدُوا الْيَهُودَ وَهُمْ مُتَفَرِّقُونَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى [الْحَشْرِ: ١٤] ، وَأَمَّا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَهُمْ كَانُوا يَدًا وَاحِدَةً عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ. ثم قال تعالى:

[[سورة القمر (٥٤) : آية ٤٦]]

بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ (٤٦)

إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْأَمْرَ غَيْرَ مُقْتَصِرٍ عَلَى انْهِزَامِهِمْ وَإِدْبَارِهِمْ بَلِ الْأَمْرُ أَعْظَمُ مِنْهُ فَإِنَّ السَّاعَةَ مَوْعِدُهُمْ فَإِنَّهُ ذَكَرَ مَا يُصِيبُهُمْ فِي الدُّنْيَا مِنَ الدُّبُرِ، ثُمَّ بَيَّنَ مَا هُوَ مِنْهُ عَلَى طَرِيقَةِ الْإِصْرَارِ، هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْإِنْذَارَ بِالسَّاعَةِ عَامٌّ لِكُلِّ مَنْ تَقَدَّمَ، كَأَنَّهُ قَالَ: أَهْلَكْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلِكَ وَأَصَرُّوا وَقَوْمُ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَيْسُوا بِخَيْرٍ مِنْهُمْ فَيُصِيبُهُمْ مَا أَصَابَهُمْ إِنْ أَصَرُّوا، ثُمَّ إِنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا لَيْسَ لِإِتْمَامِ الْمُجَازَاةِ فَإِتْمَامُ الْمُجَازَاةِ بِالْأَلِيمِ الدَّائِمِ. وَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَا الْحِكْمَةُ فِي كَوْنِ اخْتِصَاصِ السَّاعَةِ مَوْعِدَهُمْ مَعَ أَنَّهَا مَوْعِدُ كُلِّ أَحَدٍ؟ نَقُولُ: الْمَوْعِدُ الزَّمَانُ الَّذِي فِيهِ الْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ وَالْمُؤْمِنُ مَوْعُودٌ بِالْخَيْرِ وَمَأْمُورٌ بِالصَّبْرِ فَلَا يَقُولُ هُوَ: مَتَى يَكُونُ، بَلْ يُفَوِّضُ الْأَمْرَ إِلَى اللَّه، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَغَيْرُ مُصَدِّقٍ فَيَقُولُ: مَتَى يَكُونُ الْعَذَابُ؟ فَيُقَالُ لَهُ: اصْبِرْ فَإِنَّهُ آتٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلِهَذَا كَانُوا يَقُولُونَ: عَجِّلْ لَنا قِطَّنا [ص: ١٦] وَقَالَ: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ [الْحَجِّ: ٤٧] .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَدْهَى مِنْ أَيِّ شَيْءٍ؟ نَقُولُ: يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: مَا مَضَى مِنْ أَنْوَاعِ عَذَابِ الدُّنْيَا ثَانِيهِمَا: أَدْهَى الدَّوَاهِي فَلَا دَاهِيَةَ مِثْلُهَا.

<<  <  ج: ص:  >  >>