للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّه الْعَقْلُ» ،

وَرُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: «خَلَقَ اللَّه الْأَرْوَاحَ قَبْلَ الْأَجْسَامِ بِأَلْفَيْ عَامٍ»

وَقَالَ تَعَالَى: اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الزمر: ٦٢] فَالْخَلْقُ أُطْلِقَ عَلَى إِيجَادِ الْأَرْوَاحِ وَالْعَقْلِ لِأَنَّ إِطْلَاقَ الْخَلْقِ عَلَى مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ الْأَمْرُ جَائِزٌ، وَإِنَّ الْعَالَمَ بِالْكُلِّيَّةِ حَادِثٌ وَإِطْلَاقُ الْخَلْقِ بِمَعْنَى الْإِحْدَاثِ جَائِزٌ، وَإِنْ كَانَ فِي حَقِيقَةِ الْخَلْقِ تَقْدِيرٌ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ وَلَا كَذَلِكَ فِي الْإِحْدَاثِ، وَلَوْلَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْعِبَارَتَيْنِ وَإِلَّا لَاسْتَقْبَحَ الْفَلْسَفِيُّ مِنْ أَنْ يَقُولَ الْمَخْلُوقُ قَدِيمٌ كما يستقبح من أن المحدث قديم، فإذن قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَلَقَ اللَّه الْأَرْوَاحَ بِمَعْنَى أَحْدَثَهَا بِأَمْرِهِ، وَفِي هَذَا الْإِطْلَاقِ فَائِدَةٌ عَظِيمَةٌ وَهِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ غَيَّرَ الْعِبَارَةَ وَقَالَ فِي الْأَرْوَاحِ أَنَّهَا مَوْجُودَةٌ/ بِالْأَمْرِ وَالْأَجْسَامِ بِالْخَلْقِ لَظَنَّ الَّذِي لَمْ يَرْزُقْهُ اللَّه الْعِلْمَ الْكَثِيرَ أَنَّ الرُّوحَ لَيْسَتْ بِمَخْلُوقَةٍ بِمَعْنَى لَيْسَتْ بِمُحْدَثَةٍ فَكَانَ يَضِلُّ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُعِثَ رَحْمَةً، وقالوا: إذا نظرت إلى قوله تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الْإِسْرَاءِ: ٨٥] وَإِلَى قَوْلَهُ تَعَالَى: خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ [الحديد: ٤] وَإِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً [الْمُؤْمِنُونَ: ١٤] تَجِدُ التَّفَاوُتَ بَيْنَ الْأَمْرِ وَالْخَلْقِ وَالْأَرْوَاحِ وَالْأَشْبَاحِ حَيْثُ جَعَلَ لِخَلْقِ بَعْضِ الْأَجْسَامِ زَمَانًا مُمْتَدًّا هُوَ سِتَّةُ أَيَّامٍ وَجَعَلَ لِبَعْضِهَا تَرَاخِيًا وَتَرْتِيبًا بقوله: ثُمَّ خَلَقْنَا وبقوله: فَخَلَقْنَا وَلَمْ يَجْعَلْ لِلرُّوحِ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالُوا: يَنْبَغِي أَنْ لَا يُظَنَّ بِقَوْلِنَا هَذَا إِنَّ الْأَجْسَامَ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ زَمَانٍ مُمْتَدٍّ وَأَيَّامٍ حَتَّى يُوجِدَهَا اللَّه تَعَالَى فِيهِ، بَلِ اللَّه مختار إن أراد خلق السموات وَالْأَرْضَ وَالْإِنْسَانَ وَالدَّوَابَّ وَالشَّجَرَ وَالنَّبَاتَ فِي أَسْرَعِ مِنْ لَمْحِ الْبَصَرِ لَخَلَقَهَا كَذَلِكَ، وَلَكِنْ مَعَ هَذَا لَا تَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهَا مَوْجُودَاتٍ حَصَلَتْ لَهَا أَجْزَاءٌ وَوُجُودُ أَجْزَائِهَا قَبْلَ وُجُودِ التَّرْكِيبِ فِيهَا وَوُجُودُهَا بَعْدَ وُجُودِ الْأَجْزَاءِ وَالتَّرْكِيبِ فِيهَا فَهِيَ سِتَّةٌ ثَلَاثَةٌ فِي ثَلَاثَةٍ كَمَا يَخْلُقُ اللَّه الْكَسْرَ وَالِانْكِسَارَ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ وَلَهُمَا تَرْتِيبٌ عَقْلِيٌّ.

فَالْجِسْمُ إِذَنْ كَيْفَمَا فَرَضْتَ خَلْقَهُ فَفِيهِ تَقْدِيرُ وُجُودَاتٍ كُلُّهَا بِإِيجَادِ اللَّه عَلَى التَّرْتِيبِ وَالرُّوحُ لَهَا وُجُودٌ وَاحِدٌ بِإِيجَادِ اللَّه تَعَالَى هَذَا قَوْلُهُمْ. وَلْنَذْكُرْ مَا فِي الْخَلْقِ والأمر من الوجود الْمَنْقُولَةِ وَالْمَعْقُولَةِ أَحَدُهَا: مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَمْرَ هُوَ كَلِمَةُ: كُنْ وَالْخَلْقَ هُوَ مَا بِالْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ ثَانِيهَا: مَا ذَكَرُوا فِي الْأَجْسَامِ أَنَّ مِنْهَا الْأَرْوَاحَ ثَالِثُهَا: هُوَ أَنَّ اللَّه لَهُ قُدْرَةٌ بِهَا الْإِيجَادُ وَإِرَادَةٌ بِهَا التَّخْصِيصُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُحْدَثَ لَهُ وُجُودٌ مُخْتَصٌّ بِزَمَانٍ وَلَهُ مِقْدَارٌ مُعَيَّنٌ فَوُجُودُهُ بِالْقُدْرَةِ وَاخْتِصَاصُهُ بِالزَّمَانِ بِالْإِرَادَةِ فَالَّذِي بِقُدْرَتِهِ خَلْقٌ وَالَّذِي بِالْإِرَادَةِ أَمْرٌ حَيْثُ يُخَصِّصُهُ بِأَمْرِهِ بِزَمَانٍ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَنْقُولُ وَالْمَعْقُولُ، أَمَّا الْمَنْقُولُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس: ٨٢] جَعَلَ كُنْ لِتَعَلُّقِ الْإِرَادَةِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ: كُنْ لَيْسَ هُوَ الْحَرْفَ وَالْكَلِمَةَ الَّتِي مِنَ الْكَافِ وَالنُّونِ، لِأَنَّ الْحُصُولَ أَسْرَعُ مِنْ كَلِمَةِ كُنْ إِذَا حَمَلْتَهَا عَلَى حَقِيقَةِ اللَّفْظِ فَإِنَّ الْكَافَ وَالنُّونَ لَا يُوجِدُ مِنْ مُتَكَلِّمٍ وَاحِدٍ إِلَّا التَّرْتِيبَ فَفِي كُنْ لَفْظُ زَمَانٍ وَالْكَوْنُ بَعْدُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَيَكُونُ بِالْفَاءِ فَإِذَنْ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِكُنْ حَقِيقَةَ الْحَرْفِ وَالصَّوْتِ لَكَانَ الْحُصُولُ بَعْدَهُ بِزَمَانٍ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: يُمْكِنُ أَنْ يُوجَدَ الْحَرْفَانِ مَعًا وَلَيْسَ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى كَكَلَامِنَا يَحْتَاجُ إِلَى الزَّمَانِ قُلْنَا: قَدْ جَعَلَ لَهُ مَعْنًى غَيْرَ مَا نَفْهَمُهُ مِنَ اللَّفْظِ. وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَلِأَنَّ الِاخْتِصَاصَ بِالزَّمَانِ لَيْسَ لِمَعْنًى وَعِلَّةٍ وَإِنْ كَانَ بَعْضُ النَّاسِ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْخَلْقَ وَالْإِيجَادَ لِحِكْمَةٍ وَقَالَ: بِأَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْأَرْضَ لِتَكُونَ مَقَرَّ النَّاسِ أَوْ مِثْلَ هَذَا مِنَ الْحُكْمِ وَلَمْ يِمْكِنْهُ أَنْ يَقُولُ: خَلَقَ الْأَرْضَ فِي الزَّمَانِ الْمَخْصُوصِ لِتَكُونَ مَقَرًّا لَهُمْ لِأَنَّهُ لَوْ خَلَقَهَا فِي غَيْرِ ذَلِكَ لَكَانَتْ أَيْضًا مَقَرًّا لَهُمْ فَإِذَنِ التَّخْصِيصُ لَيْسَ لِمَعْنًى فَهُوَ لِمَحْضِ الْحِكْمَةِ فَهُوَ يُشْبِهُ أَمْرَ الْمَلِكِ الْجَبَّارِ الَّذِي يَأْمُرُ وَلَا يُقَالُ لَهُ: لِمَ أَمَرْتَ وَلِمَ فَعَلْتَ وَلَا يُعْلَمُ مَقْصُودُ الْآمِرِ إِلَّا مِنْهُ رَابِعُهَا: هُوَ أَنَّ الْأَشْيَاءَ الْمَخْلُوقَةَ لَا تَنْفَكُّ عَنْ أَوْصَافٍ ثَلَاثَةٍ أَوْ عَنْ وَصْفَيْنِ مُتَقَابِلَيْنِ، مِثَالُهُ الْجِسْمُ لَا بُدَّ لَهُ بَعْدَ

<<  <  ج: ص:  >  >>