للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

و: فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ [الرحمن: ٥٢] وَذَلِكَ لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْجَنَّةَ لَهَا اعْتِبَارَاتٌ ثَلَاثَةٌ أَحَدُهَا: اتِّصَالُ أَشْجَارِهَا وَعَدَمُ وُقُوعِ الْفَيَافِي وَالْمَهَامَةِ فِيهَا وَالْأَرَاضِي الْغَامِرَةِ، وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ كَأَنَّهَا جَنَّةٌ وَاحِدَةٌ لَا يَفْصِلُهَا فَاصِلٌ وَثَانِيهَا:

اشتمالها على النوعين الحاصرين للخيرات، فإن فيها ما في الدنيا، وما ليس في الدنيا وفيها ما يعرف، ومالا يعرف، وفيها ما يقدر على وصفه، وفيها مالا يقدر، وفيها لذات جسمانية ولذات غير جسمانية فلاشتمالها عَلَى النَّوْعَيْنِ كَأَنَّهَا جَنَّتَانِ وَثَالِثُهَا: لِسِعَتِهَا وَكَثْرَةِ أَشْجَارِهَا وَأَمَاكِنِهَا وَأَنْهَارِهَا وَمَسَاكِنِهَا كَأَنَّهَا جَنَّاتٌ، فَهِيَ مِنْ وَجْهٍ جَنَّةٌ وَاحِدَةٌ وَمِنْ وَجْهٍ جَنَّتَانِ وَمِنْ وَجْهٍ جَنَّاتٌ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: اجْتِمَاعُ النِّسْوَانِ لِلْمُعَاشَرَةِ مَعَ الْأَزْوَاجِ وَالْمُبَاشَرَةِ فِي الْفِرَاشِ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ فِي الدُّنْيَا لَا يُمْكِنُ، وَذَلِكَ لِضِيقِ الْمَكَانِ، أَوْ عَدَمِ الْإِمْكَانِ أَوْ دَلِيلِ ذِلَّةِ النِّسْوَانِ، فَإِنَّ الرَّجُلَ الْوَاحِدَ لَا يَجْمَعُ بَيْنَ النِّسَاءِ فِي بَيْتٍ إِلَّا إِذَا كُنَّ جَوَارِيَ غَيْرَ مُلْتَفَتٍ إِلَيْهِنَّ، فَأَمَّا إِذَا كَانَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ كَبِيرَةَ النَّفْسِ كَثِيرَةَ الْمَالِ فَلَا يَجْمَعُ بَيْنَهُنَّ، وَاعْلَمْ أَنَّ الشَّهْوَةَ فِي الدُّنْيَا كَمَا تَزْدَادُ بِالْحُسْنِ الَّذِي فِي الْأَزْوَاجِ تَزْدَادُ بِسَبَبِ الْعَظَمَةِ وَأَحْوَالِ النَّاسِ فِي أَكْثَرِ الْأَمْرِ تَدُلُّ عَلَيْهِ، إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْحَظَايَا فِي الْجَنَّةِ يَجْتَمِعُ فِيهِنَّ حُسْنُ الصُّورَةِ وَالْجَمَالِ وَالْعِزِّ وَالشَّرَفِ وَالْكَمَالِ، فَتَكُونُ الْوَاحِدَةُ لَهَا كَذَا وَكَذَا مِنَ الْجَوَارِي وَالْغِلْمَانِ فَتَزْدَادُ اللَّذَّةُ بِسَبَبِ كَمَالِهَا، فَإِذَنْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مَا يَلِيقُ بِهَا مِنَ الْمَكَانِ الْوَاسِعِ فَتَصِيرُ الْجَنَّةُ الَّتِي هِيَ وَاحِدَةٌ مِنْ حَيْثُ الِاتِّصَالُ كَثِيرَةً مِنْ حَيْثُ تَفَرُّقِ الْمَسَاكِنِ فِيهَا فَقَالَ: فِيهِنَّ وَأَمَّا الدُّنْيَا فَلَيْسَ فِيهَا تَفَرُّقُ الْمَسَاكِنِ دَلِيلًا لِلْعَظَمَةِ وَاللَّذَّةِ فَقَالَ فِيهِما [الرحمن: ٥٠] وَهَذَا مِنَ اللَّطَائِفِ الثَّالِثُ: قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ صِفَةٌ لِمَوْصُوفٍ حُذِفَ، وَأُقِيمَتِ الصِّفَةُ مَكَانَهُ، وَالْمَوْصُوفُ النِّسَاءُ أَوِ الْأَزْوَاجُ كَأَنَّهُ قَالَ فِيهِنَّ، نِسَاءٌ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ وَفِيهِ لَطِيفَةٌ:

فَإِنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَذْكُرِ النِّسَاءَ إِلَّا بِأَوْصَافِهِنَّ وَلَمْ يَذْكُرِ اسْمَ الْجِنْسِ فِيهِنَّ، فَقَالَ تَارَةً: وَحُورٌ عِينٌ [الْوَاقِعَةِ: ٢٢] / وَتَارَةً: عُرُباً أَتْراباً [الرحمن: ٥٦] وَتَارَةً: قاصِراتُ الطَّرْفِ وَلَمْ يَذْكُرْ نِسَاءَ كَذَا وَكَذَا لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: الْإِشَارَةُ إِلَى تَخْدِرِهِنَّ وَتَسَتُّرِهِنَّ، فَلَمْ يَذْكُرْهُنَّ بِاسْمِ الْجِنْسِ لِأَنَّ اسْمَ الْجِنْسِ يَكْشِفُ مِنَ الْحَقِيقَةِ مَا لَا يَكْشِفُهُ الْوَصْفُ فَإِنَّكَ إِذَا قُلْتَ الْمُتَحَرِّكُ الْمُرِيدُ الْآكِلُ الشَّارِبُ لَا تَكُونُ بَيِّنَتُهُ بِالْأَوْصَافِ الْكَثِيرَةِ أَكْثَرَ مِمَّا بينته بقوله: حَيَوَانٌ وَإِنْسَانٌ وَثَانِيهِمَا: إِعْظَامًا لَهُنَّ لِيَزْدَادَ حُسْنُهُنَّ فِي أَعْيُنِ الْمَوْعُودِينَ بِالْجَنَّةِ فَإِنَّ بَنَاتِ الْمُلُوكِ لَا يُذْكَرْنَ إِلَّا بِالْأَوْصَافِ.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قاصِراتُ الطَّرْفِ مِنَ الْقَصْرِ وَهُوَ الْمَنْعُ أَيِ الْمَانِعَاتُ أَعْيُنَهُنَّ مِنَ النَّظَرِ إِلَى الْغَيْرِ، أَوْ مِنَ الْقُصُورِ، وَهُوَ كَوْنِ أَعْيُنِهِنَّ قَاصِرَةً لَا طَمَاحَ فِيهَا لِلْغَيْرِ، أَقُولُ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنَ الْقَصْرِ إِذِ الْقَصْرُ مَدْحٌ وَالْقُصُورُ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: هُوَ مِنَ الْقَصْرِ بِمَعْنَى أَنَّهُنَّ قَصَرْنَ أَبْصَارَهُنَّ، فَأَبْصَارُهُنَّ مَقْصُورَةٌ وَهُنَّ قَاصِرَاتٌ فَيَكُونُ مِنْ إِضَافَةِ الْفَاعِلِ إِلَى الْمَفْعُولِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ هُوَ أَنَّ الْقَصْرَ مَدْحٌ وَالْقُصُورَ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَعَلَى هَذَا فَفِيهِ لَطِيفَةٌ وَهِيَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ مِنْ بَعْدِ هَذِهِ: حُورٌ مَقْصُوراتٌ [الرَّحْمَنِ: ٧٢] فَهُنَّ مَقْصُورَاتٌ وَهُنَّ قَاصِرَاتٌ، وَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يُقَالَ: هُنَّ قَاصِرَاتٌ أَبْصَارَهُنَّ كَمَا يَكُونُ شُغْلُ الْعَفَائِفِ، وَهُنَّ قَاصِرَاتُ أَنْفُسِهُنَّ فِي الْخِيَامِ كَمَا هُوَ عَادَةُ الْمُخَدَّرَاتِ لِأَنْفُسِهُنَّ فِي الْخِيَامِ وَلِأَبْصَارِهِنَّ عَنِ الطِّمَاحِ وَثَانِيهِمَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بَيَانًا لِعَظَمَتِهِنَّ وَعَفَافِهِنَّ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ الَّتِي لَا يَكُونُ لَهَا رَادِعٌ مِنْ نَفْسِهَا وَلَا يَكُونُ لَهَا أَوْلِيَاءُ يَكُونُ فِيهَا نَوْعُ هَوَانٍ، وَإِذَا كَانَ لَهَا أَوْلِيَاءُ أَعِزَّةٌ امْتَنَعَتْ عَنِ الْخُرُوجِ وَالْبُرُوزِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى عَظَمَتِهِنَّ، وَإِذَا كُنَّ فِي أَنْفُسِهِنَّ عِنْدَ الْخُرُوجِ لَا يَنْظُرْنَ يَمْنَةً وَيَسْرَةً فَهُنَّ فِي أَنْفُسِهِنَّ عَفَائِفُ، فَجَمَعَ بَيْنَ الْإِشَارَةِ إِلَى عَظَمَتِهِنَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:

<<  <  ج: ص:  >  >>