للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

غَيْرِهَا كَمَا يَكُونُ حَالُ مَنْ يَكُونُ عَلَى كُرْسِيٍّ صَغِيرٍ لَا يَسَعُهُ لِلِاتِّكَاءِ فَيُوضَعُ تَحْتَهُ شَيْءٌ آخَرُ لِلِاتِّكَاءِ عَلَيْهِ، فَلَمَّا قَالَ: عَلَى سُرُرٍ مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا دَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ اسْتِقْرَارَهُمْ وَاتِّكَاءَهُمْ جَمِيعًا عَلَى سُرُرٍ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: مُتَقابِلِينَ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ أَحَدًا لَا يَسْتَدْبِرُ أَحَدًا وَثَانِيهِمَا: أَنَّ أَحَدًا مِنَ السَّابِقِينَ لَا يَرَى غَيْرَهُ فَوْقَهُ، وَهَذَا أَقْرَبُ لِأَنَّ قَوْلَهُ: مُتَقابِلِينَ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَحْتَاجُ إِلَى أَنْ يُقَالَ: مُتَقَابِلِينَ مَعْنَاهُ أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يُقَابِلُ أَحَدًا فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ، وَلَا يُفْهَمُ هَذَا إِلَّا فِيمَا لَا يَكُونُ فِيهِ اخْتِلَافُ جِهَاتٍ، وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ مَعْنَى الْكَلَامِ أَنَّهُمْ أَرْوَاحٌ لَيْسَ لَهُمْ أَدْبَارٌ وَظُهُورٌ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ مِنَ السَّابِقِينَ هُمُ الَّذِينَ أَجْسَامُهُمْ أَرْوَاحٌ نُورَانِيَّةٌ جَمِيعُ جِهَاتِهِمْ وَجْهٌ كَالنُّورِ الَّذِي يُقَابِلُ كُلَّ شَيْءٍ وَلَا يَسْتَدْبِرُ أَحَدًا، وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَقْرَبُ إِلَى أَوْصَافِ الْمَكَانِيَّاتِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى:

[[سورة الواقعة (٥٦) : آية ١٧]]

يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ (١٧)

وَالْوِلْدَانُ جَمْعُ الْوَلِيدِ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ وَهُوَ الْمَوْلُودُ لَكِنْ غَلَبَ عَلَى الصِّغَارِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ كَوْنِهِمْ مَوْلُودِينَ، وَالدَّلِيلُ أَنَّهُمْ قَالُوا لِلْجَارِيَةِ الصَّغِيرَةِ وَلِيدَةٌ، وَلَوْ نَظَرُوا إِلَى الْأَصْلِ لَجَرَّدُوهَا عَنِ الْهَاءِ كَالْقَتِيلِ، إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: فِي الْوِلْدَانِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَلَى الْأَصْلِ وَهُمْ صِغَارُ الْمُؤْمِنِينَ وَهُوَ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ صِغَارَ الْمُؤْمِنِينَ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَنَّهُ يُلْحِقُهُمْ بِآبَائِهِمْ، وَمِنَ النَّاسِ الْمُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ مَنْ لَا وَلَدَ لَهُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَخْدِمَ وَلَدُ الْمُؤْمِنِ مُؤْمِنًا غَيْرَهُ، فَيَلْزَمُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ اخْتِصَاصٌ بِبَعْضِ الصَّالِحِينَ وَأَنْ لَا يَكُونَ لِمَنْ لَا يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ مَنْ يَطُوفُ عَلَيْهِ مِنَ الْوِلْدَانِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ وَلَدُ الْآخَرِ يَخْدِمُ غَيْرَ أَبِيهِ وَفِيهِ مَنْقَصَةٌ بِالْأَبِ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ قِيلَ: هُمْ صِغَارُ الْكُفَّارِ وَهُوَ أَقْرَبُ مِنَ الْأَوَّلِ إِذْ لَيْسَ فِيهِ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْمَفْسَدَةِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَلَى الِاسْتِعْمَالِ الَّذِي لَمْ يُلْحَظْ فِيهِ الْأَصْلُ وَهُوَ إِرَادَةُ الصِّغَارِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ كَوْنِهِمْ مَوْلُودِينَ وَهُوَ حِينَئِذٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:

وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ [الطُّورِ: ٢٤] وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مُخَلَّدُونَ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مِنَ الْخُلُودِ وَالدَّوَامِ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَظْهَرُ/ وَجْهَانِ آخَرَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ مُخَلَّدُونَ وَلَا مَوْتَ لَهُمْ وَلَا فَنَاءَ وَثَانِيهِمَا: لَا يَتَغَيَّرُونَ عَنْ حَالِهِمْ وَيَبْقَوْنَ صِغَارًا دَائِمًا لَا يَكْبَرُونَ وَلَا يَلْتَحُونَ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ مِنَ الْخَلَدَةِ وَهُوَ الْقُرْطُ بِمَعْنَى فِي آذانهم حلق، والأول أظهر وأليق. ثم قال تعالى:

[[سورة الواقعة (٥٦) : آية ١٨]]

بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (١٨)

أَوَانِي الْخَمْرِ تَكُونُ فِي الْمَجَالِسِ، وَفِي الْكُوبِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْأَقْدَاحِ وَهُوَ قَدَحٌ كَبِيرٌ ثانيهما: مِنْ جِنْسِ الْكِيزَانِ وَلَا عُرْوَةَ لَهُ وَلَا خُرْطُومَ وَالْإِبْرِيقُ لَهُ عُرْوَةٌ وَخُرْطُومٌ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْأَكْوَابِ وَالْأَبَارِيقِ وَالْكَأْسِ حَيْثُ ذَكَرَ الْأَكْوَابَ وَالْأَبَارِيقَ بِلَفْظِ الْجَمِيعِ وَالْكَأْسَ بِلَفْظِ الْوَاحِدِ وَلَمْ يَقُلْ: وَكُئُوسٍ؟ نَقُولُ: هُوَ عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ فِي الشُّرْبِ يَكُونُ عِنْدَهُمْ أَوَانٍ كَثِيرَةٌ فِيهَا الْخَمْرُ مُعَدَّةٌ مَوْضُوعَةٌ عِنْدَهُمْ، وَأَمَّا الْكَأْسُ فَهُوَ الْقَدَحُ الَّذِي يُشْرَبُ بِهِ الْخَمْرُ إِذَا كَانَ فِيهِ الْخَمْرُ وَلَا يَشْرَبُ وَاحِدٌ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ إِلَّا مِنْ كَأْسٍ وَاحِدٍ، وَأَمَّا أَوَانِي الْخَمْرِ الْمَمْلُوءَةُ مِنْهَا فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ فَتُوجَدُ كَثِيرًا، فَإِنْ قِيلَ:

الطَّوَافُ بِالْكَأْسِ عَلَى عَادَةِ أَهْلِ الدُّنْيَا وَأَمَّا الطَّوَافُ بِالْأَكْوَابِ وَالْأَبَارِيقِ فَغَيْرُ مُعْتَادٍ فَمَا الْفَائِدَةُ فِيهِ؟ نَقُولُ: عَدَمُ الطَّوَافِ بِهَا فِي الدُّنْيَا لِدَفْعِ الْمَشَقَّةِ عَنِ الطَّائِفِ لِثِقَلِهَا وَإِلَّا فَهِيَ مُحْتَاجٌ إِلَيْهَا بِدَلِيلِ أَنَّهُ عِنْدَ الْفَرَاغِ يرجع إلى الموضع الذي هي فِيهِ، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَالْآنِيَةُ تَدُورُ بِنَفْسِهَا وَالْوَلِيدُ مَعَهَا إِكْرَامًا لَا لِلْحَمْلِ، وَفِيهِ وَجْهٌ آخر من

<<  <  ج: ص:  >  >>