للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لَمَا كَانَ فِي الْوَعْدِ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ فَائِدَةٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَقْلَ إِذَا حَكَمَ بِأَنَّ تَرْكَ الْجَزَاءِ قَبِيحٌ وَعُلِمَ بِالْعَقْلِ أَنَّ الْقَبِيحَ مِنَ اللَّهِ لَا يُوجَدُ عُلِمَ أَنَّ اللَّهَ يُعْطِي هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لِأَنَّهَا أَجْزِيَةٌ، وَإِيصَالُ الْجَزَاءِ وَاجِبٌ، وَأَمَّا إِذَا قُلْنَا: بِمَذْهَبِنَا تَكُونُ الْآيَاتُ مُفِيدَةً مُبَشِّرَةً، لِأَنَّ الْبِشَارَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا بِالْخَيْرِ عَنْ أَمْرٍ غَيْرِ مَعْلُومٍ، لَا يُقَالُ: الْجَزَاءُ كَانَ وَاجِبًا عَلَى اللَّهِ وَأَمَّا الْخَبَرُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ فَلَا يَذْكُرُهَا مُبَشِّرًا، لِأَنَّا نَقُولُ: إِذَا وَجَبَ نَفْسُ الْجَزَاءِ فَمَا أَعْطَانَا اللَّهُ تَعَالَى مِنَ النِّعَمِ فِي الدُّنْيَا جَزَاءً فَثَوَابُ الْآخِرَةِ لَا يَكُونُ إِلَّا تَفَضُّلًا مِنْهُ، غَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّهُ تَعَالَى كَمَّلَ النِّعْمَةَ بِقَوْلِهِ: هَذَا جَزَاؤُكُمْ، أَيْ جَعَلْتُهُ لَكُمْ جَزَاءً، وَلَمْ يَكُنْ مُتَعَيِّنًا وَلَا وَاجِبًا، كَمَا أَنَّ الْكَرِيمَ إِذَا أَعْطَى مَنْ جَاءَ بِشَيْءٍ يَسِيرٍ شَيْئًا كَثِيرًا، فَيَظُنُّ أَنَّهُ يُودِعُهُ إِيدَاعًا أَوْ يَأْمُرُهُ بِحَمْلِهِ إِلَى مَوْضِعٍ، فَيَقُولُ لَهُ: هَذَا لَكَ فَيَفْرَحُ، ثُمَّ إِنَّهُ يَقُولُ: هَذَا إِنْعَامٌ عَظِيمٌ يُوجِبُ عَلَيَّ خِدْمَةً كَثِيرَةً، فَيَقُولُ لَهُ هَذَا جَزَاءُ مَا أَتَيْتَ بِهِ، وَلَا أَطْلُبُ مِنْكَ عَلَى هَذَا خِدْمَةً، فَإِنْ أَتَيْتَ بِخِدْمَةٍ فَلَهَا ثَوَابٌ جَدِيدٌ، فَيَكُونُ هَذَا غَايَةَ الْفَضْلِ، وَعِنْدَ هَذَا نَقُولُ: هَذَا كُلُّهُ إِذَا كَانَ الْآتِي غَيْرَ الْعَبْدِ، وَأَمَّا إِذَا فَعَلَ الْعَبْدُ مَا أَوْجَبَ عَلَيْهِ سَيِّدُهُ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ أَجْرًا، وَلَا سِيَّمَا إِذَا أَتَى بِمَا أَمَرَ بِهِ عَلَى نَوْعِ اخْتِلَالٍ، فَمَا ظَنُّكَ بِحَالِنَا مَعَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، مَعَ أَنَّ السَّيِّدَ لَا يَمْلِكُ مِنْ عَبْدِهِ إِلَّا الْبِنْيَةَ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَمْلِكُ مِنَّا أَنْفُسَنَا وَأَجْسَامَنَا، ثُمَّ إِنَّكَ إِذَا تَفَكَّرْتَ فِي مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ تَجِدُهُمْ قَدْ حَقَّقُوا مَعْنَى الْعُبُودِيَّةِ غَايَةَ التَّحْقِيقِ، وَاعْتَرَفُوا أَنَّهُمْ عَبِيدٌ لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَجِبُ لِلْعَبْدِ عَلَى السَّيِّدِ دَيْنٌ، وَالْمُعْتَزِلَةُ لَمْ يُحَقِّقُوا الْعُبُودِيَّةَ، وَجَعَلُوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللَّهِ مُعَامَلَةً تُوجِبُ مُطَالَبَةً، ونرجو أن يحقق الله تعالى معناه الْمَالِكِيَّةَ غَايَةَ التَّحْقِيقِ، وَيَدْفَعَ حَاجَاتِنَا الْأَصْلِيَّةَ وَيُطَهِّرَ أَعْمَالَنَا، كَمَا أَنَّ السَّيِّدَ يَدْفَعُ حَاجَةَ عَبْدِهِ بِإِطْعَامِهِ وَكُسْوَتِهِ، وَيُطَهِّرُ صَوْمَهُ بِزَكَاةِ فِطْرِهِ، وَإِذَا جَنَى جِنَايَةً لَمْ يُمَكِّنِ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ مِنْهُ، بَلْ يَخْتَارُ فِدَاءَهُ وَيُخَلِّصُ رَقَبَتَهُ مِنَ الْجِنَايَةِ، كَذَلِكَ يَدْفَعُ اللَّهُ حَاجَاتِنَا فِي الْآخِرَةِ، وَأَهَمُّ الْحَاجَاتِ أَنْ يَرْحَمَنَا وَيَعْفُوَ عَنَّا، وَيَتَغَمَّدَنَا/ بِالْمَغْفِرَةِ وَالرِّضْوَانِ، حَيْثُ مَنَعَ غَيْرَهُ عَنْ تَمَلُّكِ رِقَابِنَا بِاخْتِيَارِ الْفِدَاءِ عَنَّا، وَأَرْجُو أَنْ لَا يَفْعَلَ مَعَ إِخْوَانِنَا الْمُعْتَزِلَةِ مَا يَفْعَلُهُ الْمُتَعَامِلَانِ فِي الْمُحَاسَبَةِ بِالنَّقِيرِ وَالْقِطْمِيرِ، وَالْمُطَالَبَةِ بِمَا يَفْضُلُ لِأَحَدِهِمَا مِنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالُوا: لَوْ كَانَ فِي الْآخِرَةِ رُؤْيَةٌ لَكَانَتْ جَزَاءً، وَقَدْ حَصَرَ اللَّهُ الْجَزَاءَ فِيمَا ذَكَرَ وَالْجَوَابُ عَنْهُ: أَنْ نَقُولَ: لِمَ قُلْتُمْ: إِنَّهَا لَوْ كَانَتْ تَكُونُ جَزَاءً، بَلْ تَكُونُ فَضْلًا مِنْهُ فَوْقَ الْجَزَاءِ، وَهَبْ أَنَّهَا تَكُونُ جَزَاءً، وَلَكِنْ لِمَ قُلْتُمْ: إِنَّ ذِكْرَ الْجَزَاءِ حَصْرٌ وَإِنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ مَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ: أَعْطَيْتُكَ كَذَا جَزَاءً عَلَى عَمَلٍ لَا يُنَافِي قَوْلَهُ: وَأَعْطَيْتُكَ شَيْئًا آخَرَ فَوْقَهُ أَيْضًا جَزَاءً عَلَيْهِ، وَهَبْ أَنَّهُ حَصْرٌ، لَكِنْ لِمَ قُلْتُمْ: إِنَّ الْقُرْبَةَ لَا تَدُلُّ عَلَى الرُّؤْيَةِ، فَإِنْ قِيلَ: قَالَ في حق الملائكة: لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ

[النساء: ١٧٢] ، وَلَمْ يَلْزَمْ مِنْ قُرْبِهِمُ الرُّؤْيَةُ، نَقُولُ:

أَجَبْنَا أَنَّ قُرْبَهُمْ مِثْلُ قُرْبِ مَنْ يَكُونُ عِنْدَ الْمَلِكِ لِقَضَاءِ الْأَشْغَالِ، فَيَكُونُ عَلَيْهِ التَّكْلِيفُ وَالْوُقُوفُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِالْبَابِ تَخْرُجُ أَوَامِرُهُ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التَّحْرِيمِ: ٦] وَقُرْبُ الْمُؤْمِنِ قُرْبُ الْمُنَعَّمِ مِنَ الْمَلِكِ، وَهُوَ الَّذِي لَا يَكُونُ إِلَّا لِلْمُكَالَمَةِ وَالْمُجَالَسَةِ فِي الدُّنْيَا، لَكِنَّ الْمُقَرَّبَ الْمُكَلَّفَ لَيْسَ كُلَّمَا يَرُوحُ إِلَى بَابِ الْمَلِكِ يَدْخُلُ عَلَيْهِ وَأَمَّا الْمُنَعَّمُ لَا يَذْهَبُ إِلَيْهِ إِلَّا وَيَدْخُلُ عَلَيْهِ فَظَهَرَ الْفَرْقُ.

وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ [الواقعة: ١١] فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى الرُّؤْيَةِ هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْمُطَفِّفِينَ ذَكَرَ الْأَبْرَارَ وَالْفُجَّارَ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي حَقِّ الْفُجَّارِ: إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [الْمُطَفِّفِينَ: ١٥] وَقَالَ فِي الْأَبْرَارِ: يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ [الْمُطَفِّفِينَ: ٢٨] وَلَمْ يَذْكُرْ فِي مُقَابَلَةِ الْمَحْجُوبُونَ مَا يَدُلُّ عَلَى مُخَالَفَةِ حَالِ الْأَبْرَارِ حَالَ الْفُجَّارِ فِي الْحِجَابِ وَالْقُرْبِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: لَفِي عِلِّيِّينَ [الْمُطَفِّفِينَ: ١٨]

<<  <  ج: ص:  >  >>