للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كَثِيرٌ وَذَلِكَ الْمَاءُ عِنْدَ الْعَرَبِ عَزِيزٌ لَا يُسْكَبُ، بَلْ يُحْفَظُ وَيُشْرَبُ، فَإِذَا ذَكَرُوا النِّعَمَ يَعُدُّونَ كَثْرَةَ الْمَاءِ وَيُعَبِّرُونَ عَنْ كَثْرَتِهَا بِإِرَاقَتِهَا وسكبها، والأول أصح. ثم قال تعالى:

[سورة الواقعة (٥٦) : الآيات ٣٢ الى ٣٣]

وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (٣٢) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ (٣٣)

لَمَّا ذَكَرَ الْأَشْجَارَ الَّتِي يُطْلَبُ مِنْهَا وَرَقُهَا ذَكَرَ بَعْدَهَا الْأَشْجَارَ الَّتِي يُقْصَدُ ثَمَرُهَا، وَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَا الْحِكْمَةُ فِي تَقْدِيمِ الْأَشْجَارِ الْمُورِقَةِ عَلَى غَيْرِ الْمُورِقَةِ؟ نَقُولُ: هِيَ ظَاهِرَةٌ، وَهُوَ أَنَّهُ قَدَّمَ الْوَرَقَ عَلَى الشَّجَرِ عَلَى طَرِيقَةِ الِارْتِقَاءِ مِنْ نِعْمَةٍ إِلَى ذِكْرِ نِعْمَةٍ فَوْقَهَا، وَالْفَوَاكِهُ أَتَمُّ نِعْمَةً.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَا الْحِكْمَةُ فِي ذِكْرِ الْأَشْجَارِ الْمُورِقَةِ بِأَنْفُسِهَا، وَذِكْرِ أَشْجَارِ الْفَوَاكِهِ بِثِمَارِهَا؟ نَقُولُ: هِيَ أَيْضًا ظَاهِرَةٌ، فَإِنَّ الْأَوْرَاقَ حُسْنُهَا عِنْدَ كَوْنِهَا عَلَى الشَّجَرِ، وَأَمَّا الثِّمَارُ فَهِيَ فِي أَنْفُسِهَا مَطْلُوبَةٌ سَوَاءٌ كَانَتْ عَلَيْهَا أَوْ مَقْطُوعَةً، وَلِهَذَا صَارَتِ الْفَوَاكِهُ لَهَا أَسْمَاءٌ بِهَا تُعْرَفُ أَشْجَارُهَا، فَيُقَالُ: شَجَرُ التِّينِ وَوَرَقُهُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مَا الْحِكْمَةُ فِي وَصْفِ الْفَاكِهَةِ بِالْكَثْرَةِ، لَا بِالطِّيبِ وَاللَّذَّةِ؟ نَقُولُ: قَدْ بَيَّنَّا فِي سُورَةِ الرَّحْمَنِ أَنَّ الْفَاكِهَةَ فَاعِلَةٌ كَالرَّاضِيَةِ فِي قَوْلِهِ: فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ [الحاقة: ٢١] أي ذات فكهة، وَهِيَ لَا تَكُونُ بِالطَّبِيعَةِ إِلَّا بِالطِّيبِ وَاللَّذَّةِ، وَأَمَّا الْكَثْرَةُ، فَبَيَّنَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَيْثُ ذَكَرَ الْفَاكِهَةَ ذَكَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى الْكَثْرَةِ، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ لِدَفْعِ الْحَاجَةِ حَتَّى تَكُونَ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ، بَلْ هِيَ لِلتَّنَعُّمِ، فَوَصَفَهَا بِالْكَثْرَةِ وَالتَّنَوُّعِ.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: لَا مَقْطُوعَةٍ أَيْ لَيْسَتْ كَفَوَاكِهِ الدُّنْيَا، فَإِنَّهَا تَنْقَطِعُ فِي أَكْثَرِ الْأَوْقَاتِ وَالْأَزْمَانِ، وَفِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ وَالْأَمَاكِنِ وَلا مَمْنُوعَةٍ أَيْ لَا تُمْنَعُ مِنَ النَّاسِ لِطَلَبِ الْأَعْوَاضِ وَالْأَثْمَانِ، وَالْمَمْنُوعُ مِنَ النَّاسِ لِطَلَبِ الْأَعْوَاضِ وَالْأَثْمَانِ ظَاهِرٌ فِي الْحِسِّ، لِأَنَّ الْفَاكِهَةَ فِي الدُّنْيَا تُمْنَعُ عَنِ الْبَعْضِ فَهِيَ مَمْنُوعَةٌ، وَفِي الْآخِرَةِ لَيْسَتْ مَمْنُوعَةً. وَأَمَّا الْقَطْعُ فَيُقَالُ فِي الدُّنْيَا: إِنَّهَا انْقَطَعَتْ فَهِيَ مُنْقَطِعَةٌ لَا مَقْطُوعَةٌ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: لَا مَقْطُوعَةٍ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ، لِأَنَّ فِيهِ إِشَارَةً إِلَى دَلِيلِ عَدَمِ الْقَطْعِ، كَمَا أن في: لا مَمْنُوعَةٍ دَلِيلًا عَلَى عَدَمِ الْمَنْعِ، وَبَيَانُهُ هُوَ أَنَّ الْفَاكِهَةَ فِي الدُّنْيَا لَا تُمْنَعُ إِلَّا لِطَلَبِ الْعِوَضِ، وَحَاجَةِ صَاحِبِهَا إِلَى ثَمَنِهَا لِدَفْعِ حَاجَةٍ بِهِ، وَفِي الْآخِرَةِ مَالِكُهَا اللَّهُ تَعَالَى وَلَا حَاجَةَ لَهُ، فَلَزِمَ أَنْ لَا تُمْنَعَ الْفَاكِهَةُ مِنْ أَحَدٍ كَالَّذِي لَهُ فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ، وَلَا يَأْكُلُ وَلَا يَبِيعُ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَيْهَا بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ لَا شَكَّ فِي أَنْ يُفَرِّقَهَا وَلَا يَمْنَعَهَا مِنْ أَحَدٍ. وَأَمَّا الِانْقِطَاعُ فَنَقُولُ الَّذِي يُقَالُ فِي الدُّنْيَا: الْفَاكِهَةُ انْقَطَعَتْ، وَلَا يُقَالُ عِنْدَ وُجُودِهَا: امْتَنَعَتْ، بَلْ يُقَالُ: مُنِعَتْ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَتَكَلَّمُ إِلَّا بِمَا يَفْهَمُهُ الصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ، وَلَكِنَّ كُلَّ أَحَدٍ إِذَا نَظَرَ إِلَى الْفَاكِهَةِ زَمَانَ وُجُودِهَا يَرَى أَحَدًا يَحُوزُهَا وَيَحْفَظُهَا وَلَا يَرَاهَا بِنَفْسِهَا تَمْتَنِعُ فَيَقُولُ: إِنَّهَا مَمْنُوعَةٌ، وَأَمَّا عِنْدَ انْقِطَاعِهَا وَفَقْدِهَا لَا يَرَى أَحَدًا قَطَعَهَا حِسًّا وَأَعْدَمَهَا فَيَظُنُّهَا مُنْقَطِعَةً بِنَفْسِهَا لِعَدَمِ إِحْسَاسِهِ بِالْقَاطِعِ وَوُجُودِ إِحْسَاسِهِ بِالْمَانِعِ، فَقَالَ تَعَالَى: لَوْ نَظَرْتُمْ فِي الدُّنْيَا حَقَّ النَّظَرِ عَلِمْتُمْ أَنَّ كُلَّ زَمَانٍ نَظَرًا إِلَى كَوْنِهِ لَيْلًا وَنَهَارًا مُمْكِنٌ فِيهِ الْفَاكِهَةُ فَهِيَ بِنَفْسِهَا لَا تَنْقَطِعُ، وَإِنَّمَا لَا تُوجَدُ عِنْدَ الْمُحَقِّقِ لِقَطْعِ اللَّهِ إِيَّاهَا وَتَخْصِيصِهَا بِزَمَانٍ دُونَ زَمَانٍ، وَعِنْدَ غَيْرِ الْمُحَقِّقِ لِبَرْدِ الزَّمَانِ وَحَرِّهِ، وَكَوْنِهِ مُحْتَاجًا إِلَى الظُّهُورِ وَالنُّمُوِّ وَالزَّهْرِ وَلِذَلِكَ تَجْرِي الْعَادَةُ بِأَزْمِنَةٍ فَهِيَ يَقْطَعُهَا الزَّمَانُ فِي نَظَرِ غَيْرِ الْمُحَقِّقِ فَإِذَا كَانَتِ الْجَنَّةُ

<<  <  ج: ص:  >  >>