للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أُقْسِمُ بِأَنَّهُ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ لِأَنَّهُ أَظْهَرُ مِنْ أَنْ يُشْهَرَ، وَأَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُنْكَرَ، فَيَقُولُ: لَا أُقْسِمُ وَلَا يُرِيدُ بِهِ الْقَسَمَ وَنَفْيَهُ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ الْإِعْلَامَ بِأَنَّ الْوَاقِعَةَ ظَاهِرَةٌ، وَإِمَّا لِكَوْنِ الْمُقْسَمِ بِهِ فَوْقَ مَا يُقْسِمُ بِهِ، وَالْمُقْسِمُ صَارَ يُصَدِّقُ نَفْسَهُ فَيَقُولُ لَا أُقْسِمُ يَمِينًا بَلْ أَلْفَ يَمِينٍ، وَلَا أُقْسِمُ بِرَأْسِ الْأَمِيرِ بَلْ بِرَأْسِ السُّلْطَانِ وَيَقُولُ: لَا أُقْسِمُ بِكَذَا مُرِيدًا لِكَوْنِهِ فِي غَايَةِ الْجَزْمِ وَالثَّانِي: يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ لَمْ تَرِدْ فِي الْقُرْآنِ وَالْمُقْسَمُ بِهِ هُوَ اللَّه تَعَالَى أَوْ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِهِ، وَإِنَّمَا جَاءَتْ أُمُورٌ مَخْلُوقَةٌ وَالْأَوَّلُ لَا يَرِدُ عَلَيْهِ إِشْكَالٌ إِنْ قُلْنَا إِنَّ الْمُقْسَمَ بِهِ فِي جَمِيعِ الْمَوَاضِعِ رَبُّ الْأَشْيَاءِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَالصَّافَّاتِ [الصَّافَّاتِ: ١] الْمُرَادُ مِنْهُ رَبُّ الصَّافَّاتِ وَرَبُّ الْقِيَامَةِ وَرَبُّ الشَّمْسِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَإِذًا قَوْلُهُ: فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ أَيْ الْأَمْرُ أَظْهَرُ مِنْ أَنْ يُقْسَمَ عَلَيْهِ، وَأَنْ يَتَطَرَّقَ الشَّكُّ إِلَيْهِ.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مَوَاقِعُ النُّجُومِ مَا هِيَ؟ فَنَقُولُ: فِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: الْمَشَارِقُ وَالْمَغَارِبُ أَوِ الْمَغَارِبُ وَحْدَهَا، فَإِنَّ عِنْدَهَا سُقُوطَ النُّجُومِ الثَّانِي: هِيَ مَوَاضِعُهَا فِي السَّمَاءِ فِي بُرُوجِهَا وَمَنَازِلِهَا الثَّالِثُ: مَوَاقِعُهَا فِي اتِّبَاعِ الشَّيَاطِينِ عِنْدَ الْمُزَاحَمَةِ الرَّابِعُ: مَوَاقِعُهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ تَنْتَثِرُ النُّجُومُ، وَأَمَّا مَوَاقِعُ نُجُومِ الْقُرْآنِ، فَهِيَ قُلُوبُ عِبَادِهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَصَالِحِي الْمُؤْمِنِينَ، أَوْ مَعَانِيهَا وَأَحْكَامُهَا الَّتِي وَرَدَتْ فِيهَا.

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: هَلْ فِي اخْتِصَاصِ مَوَاقِعِ النُّجُومِ لِلْقَسَمِ بِهَا فَائِدَةٌ؟ قُلْنَا: نَعَمْ فَائِدَةٌ جَلِيلَةٌ، وَبَيَانُهَا أَنَّا قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْقَسَمَ بِمَوَاقِعِهَا كَمَا هِيَ قَسَمٌ كَذَلِكَ هِيَ مِنَ الدَّلَائِلِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الذَّارِيَاتِ، وَفِي الطُّورِ، وَفِي النَّجْمِ، وَغَيْرِهَا، فَنَقُولُ: هِيَ هُنَا أَيْضًا كَذَلِكَ، وَذَلِكَ مِنْ حَيْثُ إِنَّ اللَّه تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ خَلْقَ الْآدَمِيِّ مِنَ الْمَنِيِّ وَمَوْتَهُ، بَيَّنَ بِإِشَارَتِهِ إِلَى إِيجَادِ الضِّدَّيْنِ فِي الْأَنْفُسِ قُدْرَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ، ثُمَّ لَمَّا ذَكَرَ دَلِيلًا مِنْ دَلَائِلِ الْأَنْفُسِ ذَكَرَ مِنْ دَلَائِلِ الْآفَاقِ أَيْضًا قُدْرَتَهُ وَاخْتِيَارَهُ، فَقَالَ: أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ [الْوَاقِعَةِ: ٦٣] أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ [الْوَاقِعَةِ: ٦٨] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَذَكَرَ قُدْرَتَهُ عَلَى زَرْعِهِ وَجَعْلِهِ حُطَامًا، وَخَلْقِهِ الْمَاءَ فُرَاتًا عَذْبًا، وَجَعْلِهِ أُجَاجًا، إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْقَادِرَ عَلَى الضِّدَّيْنِ مُخْتَارٌ، وَلَمْ يَكُنْ ذَكَرَ مِنَ الدَّلَائِلِ السَّمَاوِيَّةِ شَيْئًا، فَذَكَرَ الدَّلِيلَ السَّمَاوِيَّ فِي مَعْرِضِ الْقَسَمِ، وَقَالَ:

مَوَاقِعُ النُّجُومِ، فَإِنَّهَا أَيْضًا دَلِيلُ الِاخْتِيَارِ، لِأَنَّ كَوْنَ كُلِّ وَاحِدٍ فِي مَوْضِعٍ مِنَ السَّمَاءِ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْمَوَاضِعِ مَعَ اسْتِوَاءِ الْمَوَاضِعِ فِي الْحَقِيقَةِ دَلِيلُ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ، فَقَالَ: بِمَواقِعِ النُّجُومِ لَيْسَ إِلَى الْبَرَاهِينِ النَّفْسِيَّةِ وَالْآفَاقِيَّةِ بِالذِّكْرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ [فُصِّلَتْ: ٥٣] وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات: ٢٠، ٢١] وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ [الذَّارِيَاتِ: ٢٢] حَيْثُ ذَكَرَ الْأَنْوَاعَ الثَّلَاثَةَ كَذَلِكَ هُنَا، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الْقَسَمِ الَّذِي يَتَضَمَّنُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلا أُقْسِمُ فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ ذِكْرَ الْمَصْدَرِ، وَلِهَذَا تُوصَفُ الْمَصَادِرُ الَّتِي لَمْ تَظْهَرُ بَعْدَ الْفِعْلِ، فَيُقَالُ: ضَرَبْتُهُ قَوِيًّا، وَفِيهِ مَسَائِلُ نَحْوِيَّةٌ وَمَعْنَوِيَّةٌ، أَمَّا النَّحْوِيَّةُ:

فَالْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هُوَ أَنْ يُقَالَ: جَوَابُ لَوْ تَعْلَمُونَ مَاذَا؟ وَرُبَّمَا يَقُولُ بَعْضُ مَنْ لَا يَعْلَمُ: إِنَّ جَوَابَهُ مَا تَقَدَّمَ وَهُوَ فَاسِدٌ فِي جَمِيعِ الْمَوَاضِعِ، لِأَنَّ جَوَابَ الشَّرْطِ لَا يَتَقَدَّمُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ عَمَلَ الْحُرُوفِ فِي مَعْمُولَاتِهَا لَا يَكُونُ قَبْلَ وُجُودِهَا، فَلَا يُقَالُ: زَيْدًا إِنْ قَامَ وَلَا غَيْرُهُ مِنَ الْحُرُوفِ وَالسِّرُّ فِيهِ أَنَّ عَمَلَ الْحُرُوفِ مُشَبَّهٌ بِعَمَلِ الْمَعَانِي، وَيُمَيِّزُ بَيْنَ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ وَغَيْرِهِمَا، فَإِذَا كَانَ الْعَامِلُ مَعْنًى لَا مَوْضِعَ لَهُ فِي الْحِسِّ فَيُعْلَمُ تَقَدُّمُهُ وَتَأَخُّرُ مُدْرَكٍ بِالْحِسِّ، جاز أن يقال: قائما ضربت زيد، أَوْ ضَرْبًا شَدِيدًا ضَرْبَتُهُ، وَأَمَّا الْحُرُوفُ فَلَهَا تَقَدُّمٌ وَتَأَخُّرٌ مُدْرَكٌ بِالْحِسِّ فَلَمْ يُمْكِنْ بَعْدَ عِلْمِنَا بِتَأَخُّرِهَا فَرْضُ وُجُودِهَا مُتَقَدِّمَةً بِخِلَافِ الْمَعَانِي، إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: عَمَلُ

<<  <  ج: ص:  >  >>