للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الزَّمَانِ عَلَى الْبَعْضِ، فَإِنَّ ذَلِكَ التَّقَدُّمَ لَيْسَ تَقَدُّمًا بِالزَّمَانِ، وَإِلَّا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الزَّمَانُ مُحِيطًا بِزَمَانٍ آخَرَ، ثُمَّ الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ الْمُحِيطِ كَالْكَلَامِ فِي الْمُحَاطِ بِهِ، فَيَلْزَمُ أَنْ يُحِيطَ بِكُلِّ زَمَانٍ زَمَانٌ آخَرُ لَا إِلَى نِهَايَةٍ بِحَيْثُ تَكُونُ كُلُّهَا حَاضِرَةً فِي هَذَا الْآنِ، فَلَا يَكُونُ هَذَا الْآنُ الْحَاضِرُ وَاحِدًا، بَلْ يَكُونُ كُلُّ حَاضِرٍ فِي حَاضِرٍ آخَرَ لَا إِلَى نِهَايَةٍ وَذَلِكَ غَيْرُ مَعْقُولٍ، وَأَيْضًا فَلِأَنَّ مَجْمُوعَ تِلْكَ الْآنَاتِ الْحَاضِرَةِ مُتَأَخِّرٌ عَنْ مَجْمُوعِ الْآنَاتِ الْمَاضِيَةِ، فَلِمَجْمُوعِ الْأَزْمِنَةِ زَمَانٌ آخَرُ مُحِيطٌ بِهَا لَكِنَّ ذَلِكَ مُحَالٌ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ زَمَانًا كَانَ دَاخِلًا فِي مَجْمُوعِ الْأَزْمِنَةِ، فإذا ذلك لزمان دَاخِلٌ فِي ذَلِكَ الْمَجْمُوعِ وَخَارِجٌ عَنْهُ وَهُوَ مُحَالٌ، فَظَهَرَ بِهَذَا الْبُرْهَانِ الظَّاهِرِ أَنَّ تَقَدُّمَ بَعْضِ أَجْزَاءِ الزَّمَانِ عَلَى الْبَعْضِ لَيْسَ بِالزَّمَانِ، وَظَاهِرٌ أَنَّهُ لَيْسَ بِالْعِلَّةِ وَلَا بِالْحَاجَةِ، وَإِلَّا لوجدا معا، كما أن العلة والعلول/ يُوجِدَانِ مَعًا، وَالْوَاحِدَ وَالِاثْنَيْنِ يُوجِدَانِ مَعًا، وَلَيْسَ أَيْضًا بِالشَّرَفِ وَلَا بِالْمَكَانِ، فَثَبَتَ أَنَّ تَقَدُّمَ بَعْضِ أَجْزَاءِ الزَّمَانِ عَلَى الْبَعْضِ قِسْمٌ سَادِسٌ غَيْرُ الْأَقْسَامِ الْخَمْسَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّ الْقُرْآنَ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَوَّلٌ لِكُلِّ مَا عَدَاهُ، وَالْبُرْهَانُ دَلَّ أَيْضًا عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، لِأَنَّا نَقُولُ: كُلُّ مَا عَدَا الْوَاجِبَ مُمْكِنٌ، وَكُلُّ مُمْكِنٍ مُحْدَثٌ، فَكُلُّ مَا عَدَا الْوَاجِبَ فَهُوَ مُحْدَثٌ، وَذَلِكَ الْوَاجِبُ أَوَّلٌ لِكُلِّ مَا عَدَاهُ، إِنَّمَا قُلْنَا: أَنَّ مَا عَدَا الْوَاجِبَ مُمْكِنٌ، لِأَنَّهُ لَوْ وُجِدَ شَيْئَانِ وَاجِبَانِ لِذَاتِهِمَا لَاشْتَرَكَا فِي الْوَاجِبِ الذَّاتِيِّ، وَلَتَبَايَنَا بِالتَّعَيُّنِ وَمَا بِهِ الْمُشَارَكَةُ غَيْرُ مَا بِهِ الْمُمَايَزَةُ، فَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُرَكَّبًا، ثُمَّ كَلُّ وَاحِدٍ مِنْ جُزْأَيْهِ إِنْ كَانَ وَاجِبًا فَقَدِ اشْتَرَكَ الْجُزْآنِ فِي الْوُجُوبِ وَتَبَايَنَا بِالْخُصُوصِيَّةِ، فَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ ذَيْنِكَ الْجُزْأَيْنِ أَيْضًا مُرَكَّبًا وَلَزِمَ التَّسَلْسُلُ، وَإِنْ لَمْ يَكُونَا وَاجِبَيْنِ أَوْ لَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا وَاجِبًا، كَانَ الْكُلُّ الْمُتَقَوِّمُ بِهِ أَوْلَى بِأَنْ لَا يَكُونَ وَاجِبًا، فَثَبَتَ أَنَّ كُلَّ مَا عَدَا الْوَاجِبَ مُمْكِنٌ، وَكُلُّ مُمْكِنٍ مُحْدَثٌ، لِأَنَّ كُلَّ مُمْكِنٍ مُفْتَقِرٌ إِلَى الْمُؤَثِّرِ، وَذَلِكَ الِافْتِقَارُ إِمَّا حَالَ الْوُجُودِ أَوْ حَالَ الْعَدَمِ، فَإِذَا كَانَ حَالَ الْوُجُودِ، فَإِمَّا حَالَ الْبَقَاءِ وَهُوَ مُحَالٌ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي إِيجَادَ الْمَوْجُودِ وَتَحْصِيلَ الْحَاصِلِ وَهُوَ مُحَالٌ، فَإِنَّ تِلْكَ الْحَاجَةَ إِمَّا حَالَ الْحُدُوثِ أَوْ حَالَ الْعَدَمِ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مُمْكِنٍ مُحْدَثًا، فَثَبَتَ أَنَّ كُلَّ مَا عَدَا ذَلِكَ الْوَاجِبَ فَهُوَ مُحْدَثٌ مُحْتَاجٌ إِلَى ذَلِكَ الْوَاجِبِ، فَإِذًا ذَلِكَ الْوَاجِبُ يَكُونُ قَبْلَ كُلِّ مَا عَدَاهُ، ثُمَّ طَلَبَ الْعَقْلُ كَيْفِيَّةَ تِلْكَ الْقَبْلِيَّةِ فَقُلْنَا: لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْقَبْلِيَّةُ بِالتَّأْثِيرِ، لِأَنَّ الْمُؤَثِّرَ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُؤَثِّرٌ مُضَافٌ إِلَى الْأَثَرِ مِنْ حَيْثُ هُوَ أَثَرٌ وَالْمُضَافَانِ مَعًا، وَالْمَعُ لَا يَكُونُ قَبْلَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِمُجَرَّدِ الْحَاجَةِ لِأَنَّ الْمُحْتَاجَ وَالْمُحْتَاجَ إِلَيْهِ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُوجِدَا مَعًا، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ تِلْكَ الْمَعِيَّةَ هاهنا مُمْتَنِعَةٌ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِمَحْضِ الشَّرَفِ فإنه ليس المطلوب من هذه القبلية هاهنا مُجَرَّدَ أَنَّهُ تَعَالَى أَشْرَفُ مِنَ الْمُمْكِنَاتِ، وَأَمَّا الْقَبْلِيَّةُ الْمَكَانِيَّةُ فَبَاطِلَةٌ، وَبِتَقْدِيرِ ثُبُوتِهَا فَتَقَدُّمُ الْمُحْدِثِ عَلَى الْمُحْدَثِ أَمْرٌ زَائِدٌ آخَرُ وَرَاءَ كَوْنِ أَحَدِهِمَا فَوْقَ الْآخَرِ بِالْجِهَةِ، وَأَمَّا التَّقَدُّمُ الزَّمَانِيُّ فَبَاطِلٌ، لِأَنَّ الزَّمَانَ أَيْضًا مُمْكِنٌ وَمُحْدَثٌ، أَمَّا أَوَّلًا فَلِمَا بَيَّنَّا أَنَّ وَاجِبَ الْوُجُودِ لَا يَكُونُ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ، وَأَمَا ثَانِيًا فَلِأَنَّ أَمَارَةَ الْإِمْكَانِ وَالْحُدُوثِ فِيهِ أَظْهَرُ كَمَا فِي غَيْرِهِ لِأَنَّ جَمِيعَ أَجْزَائِهِ مُتَعَاقِبَةٌ، وَكُلُّ مَا وُجِدَ بَعْدَ الْعَدَمِ وَعُدِمَ بَعْدَ الْوُجُودِ فَلَا شك أنه ممكن الحدث وَإِذَا كَانَ جَمِيعُ أَجْزَاءِ الزَّمَانِ مُمْكِنًا وَمُحْدَثًا وَالْكُلُّ مُتَقَوِّمٌ بِالْأَجْزَاءِ

فَالْمُفْتَقِرُ إِلَى الْمُمْكِنِ الْمُحْدَثِ أَوْلَى بِالْإِمْكَانِ وَالْحُدُوثِ، فَإِذَنِ الزَّمَانُ بِمَجْمُوعِهِ وَبِأَجْزَائِهِ مُمْكِنٌ وَمُحْدَثٌ، فَتَقَدُّمُ مُوجِدِهِ عَلَيْهِ لَا يَكُونُ بِالزَّمَانِ، لِأَنَّ الْمُتَقَدِّمَ عَلَى جَمِيعِ الْأَزْمِنَةِ لَا يَكُونُ بِالزَّمَانِ، وَإِلَّا فَيَلْزَمُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا فِي مَجْمُوعِ الْأَزْمِنَةِ لِأَنَّهُ زَمَانٌ، وَأَنْ يَكُونَ خَارِجًا عَنْهَا لِأَنَّهُ ظَرْفُهَا، وَالظَّرْفُ مُغَايِرٌ لِلْمَظْرُوفِ لَا مُحَالٌ، لَكِنَّ كَوْنَ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ دَاخِلًا فِي شَيْءٍ وَخَارِجًا عَنْهُ مُحَالٌ، وَأَمَّا ثَالِثًا فَلِأَنَّ الزَّمَانَ مَاهِيَّتُهُ تَقْتَضِي السَّيَلَانَ وَالتَّجَدُّدَ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْمَسْبُوقِيَّةَ بِالْغَيْرِ وَالْأَزَلُ يُنَافِي الْمَسْبُوقِيَّةَ بِالْغَيْرِ، فَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مُحَالٌ،

<<  <  ج: ص:  >  >>