للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْبَحْثُ الثَّالِثُ: أَنَّ هَذِهِ الْوَاقِعَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنِ انْقَطَعَ رَجَاؤُهُ عَنِ الْخَلْقِ، وَلَمْ يَبْقَ لَهُ فِي مُهِمِّهِ أَحَدٌ سِوَى الْخَالِقِ كَفَاهُ اللَّه ذَلِكَ الْمُهِمَّ، وَلْنَرْجِعْ إِلَى التَّفْسِيرِ، أَمَّا قَوْلُهُ: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: قَدْ مَعْنَاهُ التَّوَقُّعُ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّه وَالْمُجَادِلَةَ كَانَا يَتَوَقَّعَانِ أَنْ يَسْمَعَ اللَّه مُجَادَلَتَهَا وَشَكْوَاهَا، وَيُنَزِّلَ فِي ذَلِكَ مَا يُفَرِّجُ عَنْهَا.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: كَانَ حَمْزَةُ يُدْغِمُ الدَّالَ فِي السِّينِ مِنْ: قَدْ سَمِعَ وَكَذَلِكَ فِي نَظَائِرِهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّه تَعَالَى حَكَى عَنْ هَذِهِ الْمَرْأَةِ أَمْرَيْنِ أَوَّلُهُمَا: الْمُجَادَلَةُ وَهِيَ قَوْلُهُ: تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها أَيْ تُجَادِلُكَ فِي شَأْنِ زَوْجِهَا، وَتِلْكَ الْمُجَادَلَةُ

أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كُلَّمَا قَالَ لَهَا: «حَرُمْتِ عَلَيْهِ» قَالَتْ: واللَّه مَا ذَكَرَ طَلَاقًا

وَثَانِيهِمَا:

شَكْوَاهَا إِلَى اللَّه، وَهُوَ قَوْلُهَا: أَشْكُو إِلَى اللَّه فَاقَتِي وَوَجْدِي، وَقَوْلُهَا: إِنَّ لِي صِبْيَةً صِغَارًا، ثُمَّ قَالَ سُبْحَانَهُ:

وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما وَالْمُحَاوَرَةُ الْمُرَاجَعَةُ فِي الْكَلَامِ، مِنْ حَارَ الشَّيْءُ يَحُورُ حَوْرًا، أَيْ رَجَعَ يَرْجِعُ رُجُوعًا، وَمِنْهَا نَعُوذُ باللَّه مِنَ الْحَوْرِ بَعْدَ الْكَوْرِ، وَمِنْهُ فَمَا أَحَارَ بِكَلِمَةٍ، أَيْ فَمَا أَجَابَ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ أَيْ يَسْمَعُ كَلَامَ مَنْ يناديه، ويبصر من يتضرع إليه.

[[سورة المجادلة (٥٨) : آية ٢]]

الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (٢)

قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: الَّذِينَ يُظاهِرُونَ فيه بحثان:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَبَاحِثِ اللُّغَوِيَّةِ وَالْفِقْهِيَّةِ، فَنَقُولُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بَحْثَانِ.

أَحَدُهُمَا: أَنَّ الظِّهَارَ مَا هُوَ؟ الثَّانِي: أَنَّ الْمُظَاهِرَ مَنْ هُوَ؟ وَقَوْلُهُ: مِنْ نِسائِهِمْ فِيهِ بَحْثٌ: وَهُوَ أَنَّ الْمُظَاهَرَ مِنْهَا مَنْ هِيَ؟.

أَمَّا الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنَّ الظِّهَارَ مَا هُوَ؟ فَفِيهِ مَقَامَانِ:

الْمَقَامُ الْأَوَّلُ: فِي الْبَحْثِ عَنْ هَذِهِ اللَّفْظَةِ بِحَسَبِ اللُّغَةِ وَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ قَوْلِ الرَّجُلِ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، فَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الظَّهْرِ.

وَالثَّانِي: وَهُوَ صَاحِبُ «النَّظْمِ» ، أَنَّهُ لَيْسَ مَأْخُوذًا مِنَ الظَّهْرِ الَّذِي هُوَ عُضْوٌ مِنَ الْجَسَدِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ الظَّهْرُ أَوْلَى بِالذِّكْرِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مِنْ سَائِرِ الْأَعْضَاءِ الَّتِي هِيَ مَوَاضِعُ الْمُبَاضَعَةِ، والتلذذ، بل الظهر هاهنا مَأْخُوذٌ مِنَ الْعُلُوِّ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ [الْكَهْفِ: ٩٧] أَيْ يَعْلُوهُ، وَكُلُّ مَنْ عَلَا شَيْئًا فَقَدْ ظَهَرَهُ، وَمِنْهُ سُمِّيَ الْمَرْكُوبُ ظَهْرًا، لِأَنَّ رَاكِبَهُ يَعْلُوهُ، وَكَذَلِكَ امْرَأَةُ الرَّجُلِ ظَهْرُهُ، لِأَنَّهُ يَعْلُوهَا بِمِلْكِ الْبُضْعِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ نَاحِيَةِ الظَّهْرِ، فَكَأَنَّ امْرَأَةَ الرَّجُلِ مَرْكَبٌ لِلرَّجُلِ وَظَهْرٌ لَهُ وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْمَعْنَى أَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ فِي الطَّلَاقِ: نَزَلْتُ عَنِ امْرَأَتِي أَيْ طَلَّقْتُهَا، وَفِي قَوْلِهِمْ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، حَذْفٌ وَإِضْمَارٌ، لِأَنَّ تَأْوِيلَهُ:

ظَهْرُكِ عَلَيَّ، أَيْ مِلْكِي إِيَّاكِ، وَعُلُوِّي عَلَيْكِ حَرَامٌ، كَمَا أَنَّ عُلُوِّي عَلَى أُمِّي وَمِلْكَهَا حَرَامٌ عَلَيَّ.

الْمَقَامُ الثَّانِي: فِي الْأَلْفَاظِ الْمُسْتَعْمَلَةِ بِهَذَا الْمَعْنَى فِي عُرْفِ الشَّرِيعَةِ. الْأَصْلُ فِي هَذَا الْبَابِ أَنْ يُقَالَ: أَنْتِ

<<  <  ج: ص:  >  >>