للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ مُوجِبٌ لِلثَّوَابِ، وَأَيْضًا لَوْ كانت الطاعات فعلا لِلَّهِ تَعَالَى لَكَانَ قَدْ أَعْطَى الْإِنْسَانَ ثَوَابًا لَا عَلَى فِعْلٍ فَعَلَهُ الْإِنْسَانُ، وَذَلِكَ مُحَالٌ وجوابه معلوم.

[سورة الحاقة (٦٩) : الآيات ٢٥ الى ٢٦]

وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ (٢٥) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسابِيَهْ (٢٦)

وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ لَمَّا نَظَرَ فِي كِتَابِهِ وَتَذَكَّرَ قَبَائِحَ أَفْعَالِهِ خَجَلَ مِنْهَا وَصَارَ الْعَذَابُ الْحَاصِلُ مِنْ تِلْكَ الْخَجَالَةِ أَزْيَدَ مِنْ عَذَابِ النَّارِ، فَقَالَ: لَيْتَهُمْ عَذَّبُونِي بِالنَّارِ، وَمَا عَرَضُوا هَذَا الْكِتَابَ الَّذِي ذَكَّرَنِي قَبَائِحَ أَفْعَالِي حَتَّى لَا أَقَعَ فِي هَذِهِ الْخَجَالَةِ، وَهَذَا يُنَبِّهُكَ عَلَى أَنَّ الْعَذَابَ الرُّوحَانِيَّ أَشَدُّ مِنَ الْعَذَابِ الْجُسْمَانِيِّ، وَقَوْلُهُ: وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسابِيَهْ أَيْ وَلَمْ أَدْرِ أَيَّ شَيْءٍ حِسَابِيَهْ، لِأَنَّهُ حَاصِلٌ وَلَا طَائِلَ لَهُ فِي ذَلِكَ الْحِسَابِ، وَإِنَّمَا كُلُّهُ عَلَيْهِ. ثُمَّ قَالَ:

[[سورة الحاقة (٦٩) : آية ٢٧]]

يَا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ (٢٧)

الضَّمِيرُ فِي يَا لَيْتَها إِلَى مَاذَا يَعُودُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: إِلَى الْمَوْتَةِ الْأُولَى، وَهِيَ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مذكورة إلا أنها لظهورها كانت كالمذكورة والقاضية الْقَاطِعَةُ عَنِ الْحَيَاةِ. وَفِيهَا إِشَارَةٌ إِلَى الِانْتِهَاءِ وَالْفَرَاغِ، قَالَ تَعَالَى:

فَإِذا قُضِيَتِ [الْجُمُعَةِ: ١٠] وَيُقَالُ: قُضِيَ عَلَى فُلَانٍ، أَيْ مَاتَ فَالْمَعْنَى يَا لَيْتَ الْمَوْتَةَ الَّتِي مِتُّهَا كَانَتِ الْقَاطِعَةَ لِأَمْرِي، فَلَمْ أُبْعَثْ بَعْدَهَا، وَلَمْ أَلْقَ مَا وَصَلْتُ إِلَيْهِ، قَالَ قَتَادَةُ: تَمَنَّى الْمَوْتَ وَلَمْ يَكُنْ فِي الدُّنْيَا عِنْدَهُ شَيْءٌ أَكْرَهُ مِنَ الْمَوْتِ، وَشَرٌّ مِنَ الْمَوْتِ مَا يُطْلَبُ لَهُ الْمَوْتُ، قَالَ الشَّاعِرُ:

وَشَرٌّ مِنَ الْمَوْتِ الَّذِي إِنْ لَقِيتَهُ ... تَمَنَّيْتَ مِنْهُ الْمَوْتَ وَالْمَوْتُ أَعْظَمُ

وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى الْحَالَةِ الَّتِي شَاهَدَهَا عِنْدَ مُطَالَعَةِ الْكِتَابِ، وَالْمَعْنَى: يَا لَيْتَ هَذِهِ الْحَالَةَ كانت الموتة التي قضيت عَلَيَّ لِأَنَّهُ رَأَى تِلْكَ الْحَالَةَ أَبْشَعَ وَأَمَرَّ مِمَّا ذَاقَهُ مِنْ مَرَارَةِ الْمَوْتِ وَشِدَّتِهِ فَتَمَنَّاهُ عندها. / ثم قال:

[سورة الحاقة (٦٩) : الآيات ٢٨ الى ٣٢]

مَا أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ (٢٨) هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ (٢٩) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (٣٠) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (٣١) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ (٣٢)

مَا أَغْنى نفي أو استفهام عَلَى وَجْهِ الْإِنْكَارِ أَيْ أَيُّ شَيْءٍ أَغْنَى عَنِّي مَا كَانَ لِي مِنَ الْيَسَارِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ:

وَيَأْتِينا فَرْداً [مَرْيَمَ: ٨٠] وَقَوْلُهُ: هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ في المراد بسلطانية وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ضَلَّتْ عَنِّي حُجَّتِي الَّتِي كُنْتُ أَحْتَجُّ بِهَا عَلَى مُحَمَّدٍ فِي الدُّنْيَا، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: ضَلَّتْ عَنِّي حُجَّتِي يَعْنِي حِينَ شَهِدَتْ عَلَيْهِ الْجَوَارِحُ بِالشِّرْكِ وَالثَّانِي: ذَهَبَ مُلْكِي وَتَسَلُّطِي عَلَى النَّاسِ وَبَقِيتُ فَقِيرًا ذَلِيلًا، وَقِيلَ مَعْنَاهُ: إِنَّنِي إِنَّمَا كُنْتُ أُنَازِعُ الْمُحِقِّينَ بِسَبَبِ الْمُلْكِ وَالسُّلْطَانِ، فَالْآنَ ذَهَبَ ذَلِكَ الْمُلْكُ وَبَقِيَ الْوَبَالُ.

وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ سُرُورَ السُّعَدَاءِ أَوَّلًا، ثُمَّ ذَكَرَ أَحْوَالَهُمْ فِي العيش الطيب وفي الأكل والشرب، كذا

<<  <  ج: ص:  >  >>