للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَلا يَخافُ فَهُوَ لَا يَخَافُ أَيْ فَهُوَ غَيْرُ خَائِفٍ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْكَلَامُ فِي تقدير جملة من المبتدأ والخبر، أدخل الفاء عَلَيْهَا لِتَصِيرَ جَزَاءً لِلشَّرْطِ الَّذِي تَقَدَّمُهَا، وَلَوْلَا ذَاكَ لِقِيلَ: لَا يَخَفْ، فَإِنْ قِيلَ: أَيُّ فَائِدَةٍ فِي رَفْعِ الْفِعْلِ، وَتَقْدِيرِ مُبْتَدَأٍ قَبْلَهُ حَتَّى يَقَعَ خَبَرًا لَهُ وَوُجُوبِ إِدْخَالِ الْفَاءِ، وكان ذلك كله مستغنى عنه بأن يُقَالَ: لَا يَخَفْ قُلْنَا: الْفَائِدَةُ فِيهِ أَنَّهُ إِذَا فَعَلَ ذَلِكَ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: فَهُوَ لَا يَخَافُ، فَكَانَ دَالًّا عَلَى تَحْقِيقِ أَنَّ الْمُؤْمِنَ نَاجٍ لَا مَحَالَةَ، وَأَنَّهُ هُوَ الْمُخْتَصُّ لِذَلِكَ دُونَ غَيْرِهِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَهُوَ لَا يَخَافُ مَعْنَاهُ أَنَّ غَيْرَهُ يَكُونُ خَائِفًا، وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: فَلَا يَخَفْ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: بَخْساً وَلا رَهَقاً الْبَخْسُ النَّقْصُ، وَالرَّهَقُ الظُّلْمُ، ثُمَّ فِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: لَا يَخَافُ جَزَاءَ بَخْسٍ وَلَا رَهَقٍ، لأنه لم يبخس أحدا حقا، ولا [رهق] «١» ظَلَمَ أَحَدًا، فَلَا يَخَافُ جَزَاءَهُمَا الثَّانِي: لَا يَخَافُ أَنْ/ يُبْخَسَ، بَلْ يَقْطَعُ بِأَنَّهُ يُجْزَى الْجَزَاءَ الْأَوْفَى، وَلَا يَخَافُ أَنْ تُرْهِقَهُ ذِلَّةٌ من قوله: تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ [القلم: ٤٣] .

النوع الثالث عشر: قوله تعالى:

[[سورة الجن (٧٢) : آية ١٤]]

وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (١٤)

الْقَاسِطُ الْجَائِرُ، وَالْمُقْسِطُ الْعَادِلُ، وَذَكَرْنَا مَعْنَى قَسَطَ وَأَقْسَطَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ النِّسَاءِ، فَالْقَاسِطُونَ الْكَافِرُونَ الْجَائِرُونَ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ، وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: أَنَّ الْحَجَّاجَ قَالَ لَهُ حِينَ أَرَادَ قَتْلَهُ: مَا تَقُولُ فِيَّ؟ قَالَ: قَاسِطٌ عَادِلٌ، فَقَالَ الْقَوْمُ: مَا أَحْسَنَ مَا قَالَ، حَسِبُوا أَنَّهُ يَصِفُهُ بِالْقِسْطِ وَالْعَدْلِ، فَقَالَ الْحَجَّاجُ: يَا جَهَلَةُ إِنَّهُ سَمَّانِي ظَالِمًا مشركا، وتلا لهم قوله: أَمَّا الْقاسِطُونَ

[الجن: ١٥] وَقَوْلَهُ: ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ، [الْأَنْعَامِ: ١] تَحَرَّوْا رَشَداً أَيْ قَصَدُوا طَرِيقَ الْحَقِّ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: تَحَرَّوْا تَوَخَّوْا، قَالَ الْمُبَرِّدُ: أَصْلُ التَّحَرِّي مِنْ قَوْلِهِمْ: ذَلِكَ أَحْرَى، أَيْ أَحَقُّ وَأَقْرَبُ، وَبِالْحَرِيِّ أَنْ تَفْعَلَ كَذَا، أَيْ يَجِبُ عَلَيْكَ.

ثُمَّ إِنَّ الْجِنَّ ذَمُّوا الْكَافِرِينَ فَقَالُوا:

[[سورة الجن (٧٢) : آية ١٥]]

وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (١٥)

وَفِيهِ سُؤَالَانِ:

الْأَوَّلُ: لِمَ ذَكَرَ عِقَابَ الْقَاسِطِينَ وَلَمْ يَذْكُرْ ثَوَابَ الْمُسْلِمِينَ؟ الْجَوَابُ: بَلْ ذَكَرَ ثَوَابَ الْمُؤْمِنِينَ وهو قوله تعالى: تَحَرَّوْا رَشَداً [الجن: ١٤] أَيْ تَوَخَّوْا رَشَدًا عَظِيمًا لَا يَبْلُغُ كُنْهَهُ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، وَمِثْلُ هَذَا لَا يَتَحَقَّقُ إلا في الثواب.

السؤال الثاني: الجن مخلوقين مِنَ النَّارِ، فَكَيْفَ يَكُونُونَ حَطَبًا لِلنَّارِ؟ الْجَوَابُ: أَنَّهُمْ وَإِنْ خُلِقُوا مِنَ النَّارِ، لَكِنَّهُمْ تَغَيَّرُوا عَنْ تِلْكَ الْكَيْفِيَّةِ وَصَارُوا لَحْمًا وَدَمًا هَكَذَا، قيل وهاهنا آخر كلام الحسن.

[سورة الجن (٧٢) : الآيات ١٦ الى ١٧]

وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ مَاءً غَدَقاً (١٦) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً (١٧)


(١) زيادة من الكشاف ٤/ ١٦٩ ط. دار الفكر.

<<  <  ج: ص:  >  >>