للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

حُرْقَةً شَدِيدَةً رُوحَانِيَّةً كَمَنْ تَشْتَدُّ رَغْبَتُهُ فِي وِجْدَانِ شَيْءٍ، ثُمَّ إِنَّهُ لَا يَجِدُهُ فَإِنَّهُ يَحْتَرِقُ قَلْبُهُ عَلَيْهِ، فَذَاكَ هُوَ الْجَحِيمُ، ثُمَّ إِنَّهُ يَتَجَرَّعُ غُصَّةَ الْحِرْمَانِ وَأَلَمَ الْفِرَاقِ، فَذَاكَ هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَطَعاماً ذَا غُصَّةٍ ثُمَّ إِنَّهُ بِسَبَبِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ بَقِيَ مَحْرُومًا عَنْ تَجَلِّي نُورِ اللَّهِ وَالِانْخِرَاطِ فِي سِلْكِ الْمُقَدَّسِينَ، وَذَلِكَ هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ:

وَعَذاباً أَلِيماً وَالتَّنْكِيرُ فِي قَوْلِهِ: وَعَذاباً يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْعَذَابَ أَشَدُّ مِمَّا تَقَدَّمَ وَأَكْمَلُ، وَاعْلَمْ أَنِّي لَا أَقُولُ الْمُرَادُ بِهَذِهِ الْآيَاتِ هُوَ مَا ذَكَرْتُهُ فَقَطْ، بَلْ أَقُولُ إِنَّهَا تُفِيدُ حُصُولَ الْمَرَاتِبِ الْأَرْبَعَةِ الْجُسْمَانِيَّةِ، وَحُصُولَ الْمَرَاتِبِ الْأَرْبَعَةِ الرُّوحَانِيَّةِ، وَلَا يَمْتَنِعُ حَمْلُهُ عَلَيْهِمَا، وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَرَاتِبِ الْجُسْمَانِيَّةِ حَقِيقَةً، وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَرَاتِبِ الرُّوحَانِيَّةِ مَجَازًا مُتَعَارَفًا مَشْهُورًا.

ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَصَفَ الْعَذَابَ، أَخْبَرَ أنه متى يكون ذلك فقال تعالى:

[[سورة المزمل (٧٣) : آية ١٤]]

يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً (١٤)

وَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الزَّجَّاجُ: يَوْمَ مَنْصُوبٌ بِقَوْلِ: إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالًا وَجَحِيماً [المزمل: ١٢] أَيْ نُنَكِّلُ بِالْكَافِرِينَ وَنُعَذِّبُهُمْ يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الرَّجْفَةُ الزَّلْزَلَةُ وَالزَّعْزَعَةُ الشَّدِيدَةُ، وَالْكَثِيبُ الْقِطْعَةُ الْعَظِيمَةُ مِنَ الرَّمْلِ تَجْتَمِعُ مُحْدَوْدِبَةً وَجَمْعُهُ الْكُثْبَانُ، وَفِي كَيْفِيَّةِ الِاشْتِقَاقِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مِنْ كَثَبَ الشَّيْءَ/ إِذَا جَمَعَهُ كَأَنَّهُ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ وَالثَّانِي: قَالَ اللَّيْثُ: الْكَثِيبُ نَثْرُ التُّرَابِ أَوِ الشَّيْءِ يُرْمَى بِهِ، وَالْفِعْلُ اللَّازِمُ انْكَثَبَ يَنْكَثِبُ انْكِثَابًا، وَسُمِّيَ الْكَثِيبُ كَثِيبًا، لِأَنَّ تُرَابَهُ دِقَاقٌ، كَأَنَّهُ مَكْثُوبٌ مَنْثُورٌ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ لِرَخَاوَتِهِ، وَقَوْلُهُ: مَهِيلًا أَيْ سَائِلًا قَدْ أُسِيلُ، يُقَالُ: تُرَابٌ مَهِيلٌ وَمَهْيُولٌ أَيْ مَصْبُوبٌ وَمَسِيلٌ الْأَكْثَرُ فِي اللُّغَةِ مَهِيلٌ، وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِكَ مَكِيلٌ وَمَكْيُولٌ، وَمَدِينٌ وَمَدْيُونٌ، وَذَلِكَ أَنَّ الْيَاءَ تُحْذَفُ مِنْهُ الضَّمَّةُ فَتَسْكُنُ، وَالْوَاوُ أَيْضًا سَاكِنَةٌ، فَتُحْذَفُ الْوَاوُ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ ذَكَرَهُ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ، وَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّهُ تَعَالَى يُفَرِّقُ تَرْكِيبَ أَجْزَاءِ الْجِبَالِ وَيَنْسِفُهَا نَسْفًا وَيَجْعَلُهَا كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ تَصِيرُ كَالْكَثِيبِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى يُحَرِّكُهَا عَلَى مَا قَالَ: وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ [الْكَهْفِ: ٤٧] وَقَالَ: وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ [النَّمْلِ: ٨٨] وَقَالَ: وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ [النَّبَأِ: ٢٠] فَعِنْدَ ذَلِكَ تَصِيرُ مَهِيلًا، فَإِنْ قِيلَ لِمَ لَمْ يَقُلْ: وَكَانَتِ الْجِبَالُ كُثْبَانًا مَهِيلَةً؟ قُلْنَا: لِأَنَّهَا بأسرها تجتمع فتصير كثيبا واحدا مهيلا.

وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا خَوَّفَ الْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ بِأَهْوَالِ الْقِيَامَةِ خَوَّفَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ بِأَهْوَالِ الدنيا فقال تعالى:

[سورة المزمل (٧٣) : الآيات ١٥ الى ١٦]

إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (١٥) فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً (١٦)

وَاعْلَمْ أَنَّ الْخِطَابَ لِأَهْلِ مكة والمقصود تهديدهم بالأخذ الوبيل، وهاهنا سُؤَالَاتٌ:

السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: لِمَ نُكِّرَ الرَّسُولُ ثُمَّ عُرِّفَ؟ الْجَوَابُ: التَّقْدِيرُ أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا فَعَصَاهُ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا، فَأَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ أَيْضًا رَسُولًا فَعَصَيْتُمْ ذَلِكَ الرَّسُولَ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ نَأْخُذَكُمْ أَخْذًا وَبِيلًا.

<<  <  ج: ص:  >  >>