للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

اعلم أنه تعالى لما قال: يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ

بِأَعْمَالِهِ، قَالَ: بَلْ لَا يَحْتَاجُ إلى أن ينبئه غير غَيْرُهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ نَفْسَهُ شَاهِدَةٌ بِكَوْنِهِ فَاعِلًا لِتِلْكَ الْأَفْعَالِ، مُقْدِمًا عَلَيْهَا، ثُمَّ فِي قَوْلِهِ: بَصِيرَةٌ

وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: قَالَ الْأَخْفَشُ جَعَلَهُ فِي نَفْسِهِ بَصِيرَةً كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ جُودٌ وَكَرَمٌ، فَهَهُنَا/ أَيْضًا كَذَلِكَ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ بِضَرُورَةِ عَقْلِهِ يَعْلَمُ أَنَّ مَا يُقَرِّبُهُ إِلَى اللَّهِ وَيَشْغَلُهُ بِطَاعَتِهِ وَخِدْمَتِهِ فَهُوَ السَّعَادَةُ، وَمَا يُبْعِدُهُ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَيَشْغَلُهُ بِالدُّنْيَا وَلَذَّاتِهَا فَهُوَ الشَّقَاوَةُ، فَهَبْ أَنَّهُ بِلِسَانِهِ يُرَوِّجُ وَيُزَوِّرُ وَيَرَى الْحَقَّ فِي صُورَةِ الْبَاطِلِ وَالْبَاطِلَ فِي صُورَةِ الْحَقِّ، لَكِنَّهُ بِعَقْلِهِ السَّلِيمِ يَعْلَمُ أَنَّ الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ فِي ظَاهِرِهِ جَيِّدٌ أَوْ رَدِيءٌ وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ جَوَارِحُهُ تَشْهَدُ عَلَيْهِ بِمَا عَمِلَ فَهُوَ شَاهِدٌ عَلَى نَفْسِهِ بِشَهَادَةِ جَوَارِحِهِ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَمُقَاتِلٍ وَهُوَ كَقَوْلِهِ: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ [النُّورِ: ٢٤] وَقَوْلِهِ: وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ [يس: ٣٦] وَقَوْلِهِ: شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ [فُصِّلَتْ: ٢٠] فَأَمَّا تَأْنِيثُ الْبَصِيرَةِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لأن المراد بالإنسان هاهنا الْجَوَارِحُ كَأَنَّهُ قِيلَ: بَلْ جَوَارِحُ الْإِنْسَانِ، كَأَنَّهُ قِيلَ بَلْ جَوَارِحُ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِ الْإِنْسَانِ بَصِيرَةٌ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ هَذِهِ الْهَاءُ لِأَجْلِ الْمُبَالَغَةِ كَقَوْلِهِ: رَجُلٌ رَاوِيَةٌ وَطَاغِيَةٌ وَعَلَّامَةٌ.

وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى أَنَّ الْإِنْسَانَ يُخْبَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَعْمَالِهِ. ثُمَّ ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ شَاهِدٌ عَلَى نَفْسِهِ بِمَا عَمِلَ، فَقَالَ الْوَاحِدِيُّ هَذَا يَكُونُ مِنَ الْكُفَّارِ فَإِنَّهُمْ يُنْكِرُونَ مَا عَمِلُوا فَيَخْتِمُ اللَّهُ على أفواههم وينطق جوارحهم.

[[سورة القيامة (٧٥) : آية ١٥]]

وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ (١٥)

لِلْمُفَسِّرِينَ فِيهِ أَقْوَالٌ: الْأَوَّلُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: الْمَعَاذِيرُ جَمْعُ مَعْذِرَةٍ يُقَالُ: مَعْذِرَةٌ وَمَعَاذِرُ وَمَعَاذِيرُ. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : جَمْعُ الْمَعْذِرَةِ مَعَاذِرُ وَالْمَعَاذِيرُ لَيْسَ جَمْعَ مَعْذِرَةٍ، وَإِنَّمَا هُوَ اسْمُ جَمْعٍ لَهَا، وَنَحْوُهُ الْمَنَاكِيرُ فِي الْمُنْكَرِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْإِنْسَانَ وَإِنِ اعْتَذَرَ عَنْ نَفْسِهِ وَجَادَلَ عَنْهَا وَأَتَى بِكُلِّ عُذْرٍ وَحُجَّةٍ، فَإِنَّهُ لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ شَاهِدٌ عَلَى نَفْسِهِ الْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَ الضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ وَالْفَرَّاءُ وَالْمُبَرِّدُ وَالزَّجَّاجُ الْمَعَاذِيرُ السُّتُورُ، وَاحِدُهَا مِعْذَارٌ، قَالَ الْمُبَرِّدُ: هِيَ لُغَةٌ يَمَانِيَّةٌ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : إِنْ صَحَّتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ فَذَاكَ مَجَازٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّ السِّتْرَ يَمْنَعُ رُؤْيَةَ الْمُحْتَجِبِ كَمَا تَمْنَعُ الْمَعْذِرَةُ عُقُوبَةَ الذَّنْبِ، وَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا الْقَوْلِ: أَنَّهُ وَإِنْ أَسْبَلَ السِّتْرَ لِيُخْفِيَ مَا يَعْمَلُ، فإن نفسه شاهدة عليه.

[[سورة القيامة (٧٥) : آية ١٦]]

لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (١٦)

فِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: زَعَمَ قَوْمٌ مِنْ قُدَمَاءِ الرَّوَافِضِ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ قَدْ غُيِّرَ وَبُدِّلَ وَزِيدَ فِيهِ وَنُقِصَ عَنْهُ، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لَا مُنَاسَبَةَ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَبَيْنَ مَا قَبْلَهَا وَلَوْ كَانَ هَذَا التَّرْتِيبُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لَمَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ.

وَاعْلَمْ أَنَّ فِي بَيَانِ الْمُنَاسِبَةِ وُجُوهًا أَوَّلُهَا: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِعْجَالُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ، إِنَّمَا اتَّفَقَ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ عِنْدَ إِنْزَالِ هَذِهِ الْآيَاتِ عَلَيْهِ، فَلَا جَرَمَ نُهِيَ عَنْ ذَلِكَ الِاسْتِعْجَالِ فِي هَذَا الْوَقْتِ، وَقِيلَ لَهُ: لَا تَحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ وَهَذَا كَمَا أَنَّ الْمُدَرِّسَ إِذَا كَانَ يُلْقِي عَلَى تِلْمِيذِهِ/ شَيْئًا، فَأَخَذَ التِّلْمِيذُ يَلْتَفِتُ يَمِينًا وَشِمَالًا، فَيَقُولُ: الْمُدَرِّسُ فِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ الدَّرْسِ لَا تَلْتَفِتْ يَمِينًا وَشِمَالًا ثُمَّ يَعُودُ إِلَى الدَّرْسِ، فَإِذَا نَقَلَ ذَلِكَ الدرس مع

<<  <  ج: ص:  >  >>