للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الشُّكْرَ مُقَابِلٌ لِلنِّعَمِ الثَّانِي: قَالَ الْقَفَّالُ: إِنَّهُ مَشْهُورٌ فِي كَلَامِ النَّاسِ، أَنْ يَقُولُوا: لِلرَّاضِي بِالْقَلِيلِ وَالْمُثْنِي بِهِ إِنَّهُ شَكُورٌ، فَيُحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ شُكْرُ اللَّهِ لِعِبَادِهِ هُوَ رِضَاهُ عَنْهُمْ بالقليل من الطاعات، وإعطاؤه إِيَّاهُمْ عَلَيْهِ ثَوَابًا كَثِيرًا الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ مُنْتَهَى دَرَجَةِ الْعَبْدِ أَنْ يَكُونَ رَاضِيًا مِنْ ربه مرضيا لربه على ما قال: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً [الْفَجْرِ: ٢٧، ٢٨] وَكَوْنُهَا رَاضِيَةً مِنْ رَبِّهِ، أَقَلُّ دَرَجَةً مِنْ كَوْنِهَا مَرْضِيَّةً لِرَبِّهِ، فَقَوْلُهُ: إِنَّ هَذَا كانَ لَكُمْ جَزاءً إِشَارَةٌ إِلَى الْأَمْرِ الَّذِي بِهِ تَصِيرُ النَّفْسُ رَاضِيَةً مِنْ رَبِّهِ وَقَوْلُهُ:

وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً إِشَارَةٌ إِلَى كَوْنِهَا مَرْضِيَّةً لِرَبِّهِ، وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْحَالُ أَعْلَى الْمَقَامَاتِ وَآخِرَ الدَّرَجَاتِ لَا جَرَمَ وَقَعَ الْخَتْمُ عَلَيْهَا فِي ذِكْرِ مَرَاتِبِ أَحْوَالِ الْأَبْرَارِ والصديقين.

[[سورة الإنسان (٧٦) : آية ٢٣]]

إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً (٢٣)

اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ بَيَّنَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ أَنَّ الْإِنْسَانَ وُجِدَ بَعْدَ الْعَدَمِ بِقَوْلِهِ: هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً [الْإِنْسَانِ: ١] ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ خَلَقَهُ مِنْ أَمْشَاجٍ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ إِمَّا كَوْنُهُ مَخْلُوقًا مِنَ الْعَنَاصِرِ الْأَرْبَعَةِ أَوْ مِنَ الْأَخْلَاطِ الْأَرْبَعَةِ أَوْ مِنْ مَاءِ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ أَوْ مِنَ الْأَعْضَاءِ وَالْأَرْوَاحِ أَوْ مِنَ الْبَدَنِ وَالنَّفْسِ أَوْ مِنْ أَحْوَالٍ مُتَعَاقِبَةٍ عَلَى ذَلِكَ الْجِسْمِ مِثْلُ كَوْنِهِ نُطْفَةً ثُمَّ عَلَقَةً ثُمَّ مُضْغَةً ثُمَّ عِظَامًا، وَعَلَى أَيِّ هَذِهِ الْوُجُوهِ تُحْمَلُ هَذِهِ الْآيَةُ، فَلِذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الصَّانِعِ الْمُخْتَارِ جَلَّ جَلَالُهُ وَعَظُمَ كِبْرِيَاؤُهُ. ثُمَّ بَيَّنَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنِّي مَا خَلَقْتُهُ ضَائِعًا عَاطِلًا بَاطِلًا، بَلْ خَلَقْتُهُ لِأَجْلِ الِابْتِلَاءِ وَالِامْتِحَانِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: نَبْتَلِيهِ [الْإِنْسَانِ: ٢] وهاهنا مَوْضِعُ الْخُصُومَةِ الْعَظِيمَةِ الْقَائِمَةِ بَيْنَ أَهْلِ الْجَبْرِ وَالْقَدَرِ، ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى أَنِّي أَعْطَيْتُهُ جَمِيعَ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ عِنْدَ الِابْتِلَاءِ وَالِامْتِحَانِ، وَهُوَ السَّمْعُ وَالْبَصَرُ وَالْعَقْلُ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً [الْإِنْسَانِ:

٢] وَلَمَّا كَانَ الْعَقْلُ أَشْرَفَ الْأُمُورِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهَا فِي هَذَا الْبَابِ أَفْرَدَهُ عَنِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ، فَقَالَ: إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ [الْإِنْسَانِ: ٣] ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ الْخَلْقَ بَعْدَ هَذِهِ الْأَحْوَالِ صَارُوا قِسْمَيْنِ: مِنْهُمْ شَاكِرٌ، وَمِنْهُمْ كُفُورٌ، وَهَذَا الِانْقِسَامُ بِاخْتِيَارِهِمْ كَمَا هُوَ تَأْوِيلُ الْقَدَرِيَّةِ، أَوْ مِنَ اللَّهِ عَلَى مَا هُوَ تَأْوِيلُ الْجَبْرِيَّةِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ عَذَابَ الْكُفَّارِ عَلَى الِاخْتِصَارِ، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ ثَوَابَ الْمُطِيعِينَ عَلَى الِاسْتِقْصَاءِ، وَهُوَ إِلَى قَوْلِهِ: وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً [الإنسان: ٢٢] وَاعْلَمْ أَنَّ الِاخْتِصَارَ فِي ذِكْرِ الْعِقَابِ مَعَ الْإِطْنَابِ فِي شَرْحِ الثَّوَابِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ جَانِبَ/ الرَّحْمَةِ أَغْلَبُ وَأَقْوَى، فَظَهَرَ مِمَّا بَيَّنَّا أَنَّ السُّورَةَ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ فِي بَيَانِ أَحْوَالِ الْآخِرَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى شَرَعَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي أَحْوَالِ الدُّنْيَا، وَقَدَّمَ شَرْحَ أَحْوَالِ الْمُطِيعِينَ عَلَى شَرْحِ أَحْوَالِ الْمُتَمَرِّدِينَ. أَمَّا الْمُطِيعُونَ فَهُمُ الرَّسُولُ وَأُمَّتُهُ، وَالرَّسُولُ هُوَ الرَّأْسُ وَالرَّئِيسُ، فَلِهَذَا خُصَّ الرَّسُولُ بِالْخِطَابِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْخِطَابَ إِمَّا النَّهْيُ وَإِمَّا الْأَمْرُ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى قَبْلَ الْخَوْضِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالرَّسُولِ مِنَ النَّهْيِ وَالْأَمْرِ، قَدَّمَ مُقَدِّمَةً فِي تَقْوِيَةُ قَلْبِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِزَالَةِ الْغَمِّ وَالْوَحْشَةِ عَنْ خَاطِرِهِ، وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ، لِأَنَّ الِاشْتِغَالَ بِالطَّاعَةِ وَالْقِيَامَ بِعُهْدَةِ التَّكْلِيفِ لَا يَتِمُّ إِلَّا مَعَ فَرَاغِ الْقَلْبِ ثُمَّ بَعْدَ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ ذَكَرَ نَهْيَهُ عَنْ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ، ثُمَّ بَعْدَ الْفَرَاغِ عَنِ النَّهْيِ، ذَكَرَ أَمْرَهُ بِبَعْضِ الْأَشْيَاءِ، وَإِنَّمَا قَدَّمَ النَّهْيَ عَلَى الْأَمْرِ، لِأَنَّ دَفْعَ الضَّرَرِ أَهَمُّ مِنْ جَلْبِ النَّفْعِ، وإزالة مالا يَنْبَغِي مُقَدَّمٌ عَلَى تَحْصِيلِ مَا يَنْبَغِي، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ أَحْوَالَ الْمُتَمَرِّدِينَ وَالْكُفَّارِ عَلَى مَا سَيَأْتِي تَفْصِيلُ بَيَانِهِ، وَمَنْ تَأَمَّلَ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ عَلِمَ أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ، وَقَعَتْ عَلَى أَحْسَنِ وُجُوهِ التَّرْتِيبِ وَالنِّظَامِ، فَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَوَّرَ عَقْلَ هَذَا الْمِسْكِينِ الضَّعِيفِ بِهَذِهِ الْأَنْوَارِ، وَلَهُ الشُّكْرُ عَلَيْهِ أَبَدَ الْآبَادِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>