للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يَحْصُلُ فِيهِ كُلُّ الْحَقِّ، وَيَنْدَمِغُ كُلُّ بَاطِلٍ، فَلَمَّا كَانَ كَامِلًا فِي هَذَا الْمَعْنَى قِيلَ: إِنَّهُ حَقٌّ، كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ خَيْرٌ كُلُّهُ إِذَا وُصِفَ بِأَنَّ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا، وَقَوْلُهُ: ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ يُفِيدُ أَنَّهُ هُوَ الْيَوْمُ الْحَقُّ وَمَا عَدَاهُ بَاطِلٌ، لِأَنَّ أَيَّامَ الدُّنْيَا بَاطِلُهَا أَكْثَرُ مِنْ حَقِّهَا وَثَانِيهَا: أَنَّ الْحَقَّ هُوَ الثَّابِتُ الْكَائِنُ، وَبِهَذَا الْمَعْنَى يُقَالُ إِنَّ اللَّهَ حَقٌّ، أَيْ هُوَ ثَابِتٌ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْفَنَاءُ وَيَوْمُ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ فَيَكُونُ حَقًّا وَثَالِثُهَا: أَنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ هُوَ الْيَوْمُ الَّذِي يَسْتَحِقُّ أَنْ يُقَالَ لَهُ يَوْمٌ، لِأَنَّ فِيهِ تُبْلَى السَّرَائِرُ وَتَنْكَشِفُ الضَّمَائِرُ، وَأَمَّا أَيَّامُ الدُّنْيَا فأحوال الخلف فِيهَا مَكْتُومَةٌ، وَالْأَحْوَالُ فِيهَا غَيْرُ مَعْلُومَةٍ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً أَيْ مَرْجِعًا، وَالْمُعْتَزِلَةُ احْتَجُّوا بِهِ عَلَى الِاخْتِيَارِ وَالْمَشِيئَةِ، وَأَصْحَابُنَا رَوَوْا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: الْمُرَادُ فَمَنْ شَاءَ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا هداه حتى يتخذ إلى ربه مآبا.

[[سورة النبإ (٧٨) : آية ٤٠]]

إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً (٤٠)

[في قوله تعالى نَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً

] ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى زَادَ فِي تَخْوِيفِ الْكُفَّارِ فقال: نَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً

يَعْنِي الْعَذَابَ فِي الْآخِرَةِ، وَكُلُّ مَا هُوَ آتٍ قَرِيبٌ، وَ [هُوَ] كَقَوْلِهِ تَعَالَى: كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها [النازعات: ٤٦] وَإِنَّمَا سَمَّاهُ إِنْذَارًا، لِأَنَّهُ تَعَالَى بِهَذَا الْوَصْفِ قَدْ خَوَّفَ مِنْهُ نِهَايَةَ التَّخْوِيفِ وَهُوَ مَعْنَى الإنذار.

ثم قال تعالى: وْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَداهُ

وَفِيهِ مَسَائِلُ:

المسألة الْأُولَى: مَا فِي قَوْلِهِ: اقَدَّمَتْ يَداهُ

فِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّهَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ مَنْصُوبَةٌ بقدمت، أَيْ يَنْظُرُ أَيَّ شَيْءٍ قَدَّمَتْ يَدَاهُ الثَّانِي: أن تكون بمعنى الذي وتكون منصوبة ينتظر، وَالتَّقْدِيرُ: يَنْظُرُ إِلَى الَّذِي قَدَّمَتْ يَدَاهُ، إِلَّا أَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ حَصَلَ فِيهِ حَذْفَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ: قَدَّمَتْهُ، بَلْ قَالَ: دَّمَتْ

فَحَذَفَ الضَّمِيرَ الرَّاجِعَ الثَّانِي: أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ: يَنْظُرُ إِلَى مَا قَدَّمَتْ، بَلْ قَالَ: يَنْظُرُ ما قدمت، يقام نَظَرْتُهُ بِمَعْنَى نَظَرْتُ إِلَيْهِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي الْآيَةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْأَظْهَرُ أَنَّ الْمَرْءَ عَامٌّ فِي كُلِّ أَحَدٍ، لِأَنَّ الْمُكَلَّفَ إِنْ كَانَ قَدَّمَ عَمَلَ الْمُتَّقِينَ، فَلَيْسَ لَهُ إِلَّا الثَّوَابُ الْعَظِيمُ، وَإِنْ كَانَ قَدَّمَ عَمَلَ الْكَافِرِينَ، فَلَيْسَ لَهُ إِلَّا الْعِقَابُ الَّذِي وَصَفَهُ اللَّهُ تَعَالَى، فَلَا رَجَاءَ لِمَنْ وَرَدَ الْقِيَامَةَ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ فِي أَمْرٍ سِوَى هَذَيْنِ، فَهَذَا هو المراد بقوله: وْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَداهُ

فَطُوبَى لَهُ إِنْ قَدَّمَ عَمَلَ الْأَبْرَارِ، وَوَيْلٌ لَهُ إِنْ قَدَّمَ عَمَلَ الْفُجَّارِ وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ عطاء: أن المر هَاهُنَا هُوَ الْكَافِرُ، لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ كَمَا يَنْظُرُ إِلَى مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ، فَكَذَلِكَ يَنْظُرُ إِلَى عَفْوِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ/ وَأَمَّا الْكَافِرُ الَّذِي لَا يَرَى إِلَّا الْعَذَابَ، فَهُوَ لَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ، لِأَنَّ مَا وَصَلَ إِلَيْهِ مِنَ الْعِقَابِ لَيْسَ إِلَّا مِنْ شُؤْمِ مُعَامَلَتِهِ وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ، وَقَتَادَةَ أَنَّ الْمَرْءَ هَاهُنَا هُوَ الْمُؤْمِنُ، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِوَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ، يَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً

فَلَمَّا كَانَ هَذَا بَيَانًا لِحَالِ الْكَافِرِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْأَوَّلُ بَيَانًا لِحَالِ الْمُؤْمِنِ وَالثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ الْمُؤْمِنَ لَمَّا قَدَّمَ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ فَهُوَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى خَوْفٍ وَرَجَاءٍ، فَيَنْتَظِرُ كَيْفَ يَحْدُثُ الْحَالُ، أَمَّا الْكَافِرُ فَإِنَّهُ قَاطِعٌ بِالْعِقَابِ، فَلَا يَكُونُ لَهُ انْتِظَارٌ أَنَّهُ كَيْفَ يَحْدُثُ الْأَمْرُ، فَإِنَّ مَعَ الْقَطْعِ لَا يَحْصُلُ الِانْتِظَارُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْقَائِلُونَ: بِأَنَّ الْخَيْرَ يُوجِبُ الثَّوَابَ وَالشَّرَّ يُوجِبُ الْعِقَابَ تَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالُوا:

<<  <  ج: ص:  >  >>