للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ وَجْهَ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ هَذِهِ الْقِصَّةِ وَبَيْنَ مَا قَبْلَهَا مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْ الْكُفَّارِ إِصْرَارَهُمْ عَلَى إِنْكَارِ الْبَعْثِ حَتَّى انْتَهَوْا فِي ذَلِكَ الْإِنْكَارِ إِلَى حَدِّ الِاسْتِهْزَاءِ فِي قَوْلِهِمْ: تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ [النازعات: ١٢] وَكَانَ ذَلِكَ يَشُقُّ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ قِصَّةَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَبَيَّنَ أَنَّهُ تَحَمَّلَ الْمَشَقَّةَ الْكَثِيرَةَ فِي دَعْوَةِ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ ذَلِكَ كَالتَّسْلِيَةِ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الثَّانِي: أَنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ أَقْوَى مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ وَأَكْثَرَ جَمْعًا وَأَشَدَّ شَوْكَةً، فَلَمَّا تَمَرَّدَ عَلَى مُوسَى أَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى، فَكَذَلِكَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ فِي تَمَرُّدِهِمْ عَلَيْكَ إِنْ أَصَرُّوا أَخَذَهُمُ اللَّهُ وَجَعَلَهُمْ نَكَالًا.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: هَلْ أَتاكَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَلَيْسَ قَدْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى هَذَا إِنْ كَانَ قَدْ أَتَاهُ ذَلِكَ قَبْلَ هَذَا الْكَلَامِ، أَمَّا إِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ أَتَاهُ فَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: هَلْ أَتاكَ كَذَا، أَمْ أَنَا أُخْبِرُكَ بِهِ فَإِنَّ فِيهِ عِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْوَادِي الْمُقَدَّسُ الْمُبَارَكُ الْمُطَهَّرُ، وَفِي قَوْلِهِ: طُوىً وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أنه اسم وادي بِالشَّامِ وَهُوَ عِنْدَ الطُّورِ الَّذِي أَقْسَمَ اللَّهُ بِهِ فِي قَوْلِهِ: وَالطُّورِ وَكِتابٍ مَسْطُورٍ [الطُّورِ: ١، ٢] وَقَوْلِهِ:

وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ [مَرْيَمَ: ٥٢] وَالثَّانِي: أَنَّهُ بِمَعْنَى يَا رَجُلُ بِالْعِبْرَانِيَّةِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: يَا رَجُلُ اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: طُوىً أَيْ نَادَاهُ طُوىً مِنَ اللَّيْلَةِ اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ لِأَنَّكَ تَقُولُ جِئْتُكَ بَعْدَ طُوىً أَيْ بَعْدَ سَاعَةٍ مِنَ اللَّيْلِ وَالرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ الَّذِي طُوِيَ أَيْ بُورِكَ فِيهِ مَرَّتَيْنِ.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو طُوَى بِضَمِّ الطَّاءِ غَيْرَ مُنَوَّنٍ، وَقَرَأَ/ الْبَاقُونَ بِضَمِّ الطَّاءِ مُنَوَّنًا، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو. طِوَى بِكَسْرِ الطَّاءِ، وَطَوَى مِثْلُ ثَنَى، وَهُمَا اسْمَانِ لِلشَّيْءِ الْمَثْنِيِّ، وَالطَّيُّ بِمَعْنَى الثَّنْيِ، أَيْ ثَنَّيْتُ فِي الْبَرَكَةِ وَالتَّقْدِيسِ، قَالَ الْفَرَّاءُ: طُوىً وَادٍ بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَمِصْرَ، فَمَنْ صَرَفَهُ قَالَ: هُوَ ذَكَرٌ سَمَّيْنَا بِهِ ذَكَرًا، وَمَنْ لَمْ يَصْرِفْهُ جَعَلَهُ مَعْدُولًا عَنْ جِهَتِهِ كَعُمَرَ وَزُفَرَ، ثُمَّ قَالَ: وَالصَّرْفُ أَحَبُّ إِلَيَّ إِذْ لَمْ أَجِدْ فِي الْمَعْدُولِ نَظِيرًا، أَيْ لَمْ أَجِدِ اسْمًا مِنَ الْوَاوِ وَالْيَاءِ عُدِلَ عَنْ فَاعِلِهِ إِلَى فِعْلٍ غَيْرَ طُوىً.

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: تَقْدِيرُ الْآيَةِ: إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ وَقَالَ اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ، وَفِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ أَنِ اذْهَبْ، لِأَنَّ فِي النِّدَاءِ مَعْنَى الْقَوْلِ. وَأَمَّا أَنَّ ذَلِكَ النِّدَاءَ كَانَ بِإِسْمَاعِ الْكَلَامِ الْقَدِيمِ، أَوْ بِإِسْمَاعِ الْحَرْفِ وَالصَّوْتِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَكَيْفَ عَرَفَ مُوسَى أَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ. فَكُلُّ ذَلِكَ قَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ طه.

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: أَنَّ سَائِرَ الْآيَاتِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى فِي أَوَّلِ مَا نَادَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَكَرَ لَهُ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً، كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ طه: نُودِيَ يا مُوسى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ إِلَى قَوْلِهِ: لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى [طه: ٢٣، ٢٤] فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ هَاهُنَا: اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى مِنْ جُمْلَةِ مَا نَادَاهُ بِهِ رَبُّهُ، لَا أَنَّهُ كُلُّ مَا نَادَاهُ بِهِ، وَأَيْضًا لَيْسَ الْغَرَضُ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مَبْعُوثًا إِلَى فِرْعَوْنَ فَقَطْ، بَلْ إِلَى كُلِّ مَنْ كَانَ فِي ذَلِكَ الطَّرَفِ، إِلَّا أَنَّهُ خَصَّهُ بِالذِّكْرِ، لِأَنَّ دَعْوَتَهُ جَارِيَةٌ مَجْرَى دَعْوَةِ كُلِّ ذَلِكَ الْقَوْمِ.

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: الطُّغْيَانُ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمْ يُبَيِّنْ أَنَّهُ تَعَدَّى فِي أَيِّ شَيْءٍ، فَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ تَكَبَّرَ عَلَى اللَّهِ وَكَفَرَ بِهِ، وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهُ طَغَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَالْأَوْلَى عِنْدِي الْجَمْعُ

<<  <  ج: ص:  >  >>