للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أُضِيفَ إِلَى خَلْقِ السَّمَاءِ عَلَى عِظَمِهَا وَعِظَمِ أَحْوَالِهَا يَسِيرٌ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ خَلْقَ السَّمَاءِ أَعْظَمُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَخَلْقُهُمْ عَلَى وَجْهِ الْإِعَادَةِ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ مَقْدُورًا لِلَّهِ تَعَالَى فَكَيْفَ يُنْكِرُونَ ذَلِكَ؟ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى / أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ [يس: ٨١] وَقَوْلُهُ: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ [غَافِرٍ: ٥٧] وَالْمَعْنَى أَخَلْقُكُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ أَشَدُّ أَمْ خَلْقُ السَّمَاءِ أَيْ عِنْدَكُمْ، وَفِي تَقْدِيرِكُمْ، فَإِنَّ كِلَا الْأَمْرَيْنِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى قُدْرَةِ اللَّهِ وَاحِدٌ وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ بَيَانُ كَوْنِهِمْ مَخْلُوقِينَ، وَهَذَا الْقَوْلُ ضَعِيفٌ لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَنْ أَنْكَرَ كَوْنَ الإنسان مخلوقا فبأن ينكر [هـ] في السماء كان أولى أَنَّ أَوَّلَ السُّورَةِ كَانَ فِي بَيَانِ مَسْأَلَةِ الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ، فَحَمْلُ هَذَا الْكَلَامِ عَلَيْهِ أَوْلَى.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: هَذَا الْكَلَامُ تَمَّ عِنْدَ قَوْلِهِ: أَمِ السَّماءُ.

ثُمَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: بَناها ابْتِدَاءُ كَلَامٍ آخَرَ، وَعِنْدَ أَبِي حَاتِمٍ الْوَقْفُ عَلَى قَوْلِهِ: بَناها قَالَ: لِأَنَّهُ مِنْ صِلَةِ السَّمَاءِ، وَالتَّقْدِيرُ: أَمِ السَّمَاءُ الَّتِي بَنَاهَا، فَحَذَفَ الَّتِي، وَمِثْلُ هَذَا الْحَذْفِ جَائِزٌ، قَالَ الْقَفَّالُ: يُقَالُ: الرَّجُلُ جَاءَكَ عَاقِلٌ، أَيِ الرَّجُلُ الَّذِي جَاءَكَ عَاقِلٌ إِذَا ثَبَتَ أَنَّ هَذَا جَائِزٌ فِي اللُّغَةِ فَنَقُولُ: الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: بَناها صِلَةٌ لِمَا قَبْلَهُ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ صِلَةً لَكَانَ صِفَةً، فَقَوْلُهُ: بَناها صِفَةٌ، ثُمَّ قَوْلُهُ: رَفَعَ سَمْكَها صِفَةٌ، فَقَدْ تَوَالَتْ صِفَتَانِ لَا تَعَلُّقَ لِإِحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى، فَكَانَ يَجِبُ إِدْخَالُ الْعَاطِفِ فِيمَا بَيْنَهُمَا، كما في قوله: وَأَغْطَشَ لَيْلَها [النازعات: ٢٩] فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّ قَوْلَهُ: بَناها صِلَةٌ لِلسَّمَاءِ، ثُمَّ قَالَ: رَفَعَ سَمْكَها ابْتِدَاءٌ بِذِكْرِ صِفَتِهِ، وَلِلْفَرَّاءِ أَنْ يَحْتَجَّ عَلَى قَوْلِهِ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ قَوْلُهُ: بَناها صِلَةً لِلسَّمَاءِ لَكَانَ التَّقْدِيرُ: أَمِ السَّمَاءُ [الَّتِي] «١» بَنَاهَا، وَهَذَا يَقْتَضِي وُجُودَ سَمَاءٍ مَا بَنَاهَا اللَّهُ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي بَنَى السَّمَاءَ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّ السَّمَاءَ جِسْمٌ، وَكُلُّ جِسْمٍ مُحْدَثٌ، لِأَنَّ الْجِسْمَ لَوْ كَانَ أَزَلِيًّا لَكَانَ فِي الْأَزَلِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَحَرِّكًا أَوْ سَاكِنًا، وَالْقِسْمَانِ بَاطِلَانِ، فَالْقَوْلُ بِكَوْنِ الْجِسْمِ أَزَلِيًّا بَاطِلٌ. أَمَّا الْحَصْرُ فَلِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُسْتَقِرًّا حَيْثُ هُوَ فَيَكُونَ سَاكِنًا، أَوْ لَا يَكُونَ مُسْتَقِرًّا حَيْثُ هُوَ فَيَكُونَ مُتَحَرِّكًا، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ مُتَحَرِّكًا، لِأَنَّ مَاهِيَّةَ الْحَرَكَةِ تَقْتَضِي الْمَسْبُوقِيَّةَ بِالْغَيْرِ، وَمَاهِيَّةَ الْأَزَلِ تُنَافِي الْمَسْبُوقِيَّةَ بِالْغَيْرِ وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مُحَالٌ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ سَاكِنًا، لِأَنَّ السُّكُونَ وَصْفٌ ثُبُوتِيٌّ وَهُوَ مُمْكِنُ الزَّوَالِ، وَكُلُّ مُمْكِنِ الزَّوَالِ مُفْتَقِرٌ إِلَى الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ، وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ مُحْدَثٌ، فَكُلُّ سُكُونٍ مُحْدَثٌ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ أَزَلِيًّا، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ السُّكُونَ وَصْفٌ ثُبُوتِيٌّ، لِأَنَّهُ يَتَبَدَّلُ كَوْنُ الْجِسْمِ مُتَحَرِّكًا بِكَوْنِهِ سَاكِنًا مَعَ بَقَاءِ ذَاتِهِ، فَأَحَدُهُمَا لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ أَمْرًا ثُبُوتِيًّا، فَإِنْ كَانَ الثُّبُوتِيُّ هُوَ السُّكُونَ فَقَدْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ، وَإِنْ كَانَ الثُّبُوتِيُّ هُوَ الْحَرَكَةَ وَجَبَ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ السُّكُونُ ثُبُوتِيًّا، لِأَنَّ الْحَرَكَةَ عِبَارَةٌ عَنِ الْحُصُولِ فِي الْمَكَانِ بَعْدَ أَنْ كَانَ فِي غَيْرِهِ، وَالسُّكُونُ عِبَارَةٌ عَنِ الْحُصُولِ فِي الْمَكَانِ بَعْدَ أَنْ كَانَ فِيهِ بِعَيْنِهِ، فَالتَّفَاوُتُ بَيْنَ الْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ لَيْسَ فِي/ الْمَاهِيَّةِ، بَلْ فِي الْمَسْبُوقِيَّةِ بِالْغَيْرِ وَعَدَمِ الْمَسْبُوقِيَّةِ بِالْغَيْرِ، وَذَلِكَ وَصْفٌ عَارِضِيٌّ خَارِجِيٌّ عَنِ الْمَاهِيَّةِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ تِلْكَ الْمَاهِيَّةَ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ فِي إِحْدَى الصُّورَتَيْنِ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ كذلك في سورة أُخْرَى، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ سُكُونَ السَّمَاءِ جَائِزُ الزَّوَالِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ وَاجِبًا لِذَاتِهِ لَامْتَنَعَ زَوَالُهُ، فَكَانَ يَجِبُ أَنْ لَا تَتَحَرَّكَ السَّمَاءُ لَكِنَّا نَرَاهَا الْآنَ مُتَحَرِّكَةً، فَعَلِمْنَا أَنَّهَا لَوْ كانت ساكنة في الأزل،


(١) ما بين القوسين المربعين زيادة اقتضاها الكلام إذ لا معنى له بدونها (عبد الله الصاوي) .

<<  <  ج: ص:  >  >>